الإمام بديع الزمان سعيد النورسي حين يخاطبك و يقول : " رُكبتَ من القصور والفقر والعجز و الاحتياج ، لتنظر بمرصاد قصورك إلى سرادقات كماله سبحانه ، وبمقياس فقرك إلى درجات غناه و رحمته ، و بميزان عجزك إلى قدرته و كبريائه ، ومن تنوع احتياجك إلى أنواع نعمه و إحسانه .
فغاية فطرتك هي العبودية .
و العبودية أن تعلن عند باب رحمته قصورك ب( أستغفر الله ) و ( سبحان الله ) .
و فقرك ب ( حسبنا الله ) و ب ( الحمد لله ) ، و بالسؤال . و عجزك ب( لا حول و لا قوة إلا بالله ) و ب ( الله أكبر ) ، و باستمداد .
فَتُظْهِر بمراتب عبوديتك جمال ربوبيته " 2
يقول يحي بن معاذ رضي الله عنه (خلقت القلوب مساكن للذكر فسارت مساكن للشهوات ولايطفئ نار الشهوة إلا خوف مزعج أو شوق مقلق )
استعلاء .. ثمنه التعب
وإنما أرشدك الصالحون طريق الاستعلاء والسيادة بالنية والهمة ، وعليك تعبه ورآوب مصاعبه ، وذلك : إن السيادة نهج واضح الوعر
.
وليس أمرها بالهيَّن ، وإنما هي قول ثقيل ألقاه الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه : يجب أن يسودوا .
ويمكن لهذا الثقل أن تخففه النية ، فيتعاظم تأثير التعب القليل بصلاحها ، آما أشار الذين وصفوا الابتداء ، ولكن هداية القلب ،
وإضاءة النفس ، ونهضات الهمة ، إنما يذآيهن الجد ، فمن أرادهن دائمات : أدام جده ، وهو معنى قولهم : ( استجلب نور القلب بدوام
الجد )
فلا بد من الجد الدائم ، لأن خواطر الفكر دائمة ، وحرآات الجوارح متصلة ، فإن لم يكن الجد معهن دائماً : شغلهن ما هو دونه أو ضده ،
فيكون الهبوط من بعد الاستعلاء ، يحذرك إياه عبد الوهاب عزام ، و ينبهك أن :
" الفكر لا يحد واللسان لا يصمت ، والجوارح لا تسكن . فإن لم تشغلها بالعظائم : شغلتها الصغائر .
و إن لم نُعمِلها في الخير : عملت في الشر .
إن في النفوس رآوناً إلى اللذيذ والهين ، و نفوراً عن المكره والشاق ، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق ، ورضها وسسها
على المكروه الأحسن ، حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها ، وحتى تنفر عن آل دنية و تربأ عن آل صغيرة .
علمها التحليق : تكره الإسفاف . عرّفها العز : تنفر من الذل .
وأذقها اللذات الروحية العظيمة : تحقر اللذات الحسية الصغيرة " 2
و أنت صاحب غاية :
و إنما يوصل الداعية إلى غايته : " شغفه بدعوته و إيمانه ، و اقتناعه بها ، و تفانيه فيها ، وانقطاعه إليها بجميع مواهبة وطاقاته
ووسائله ، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسة للدعاة " 1
• و أنت طالب نفوذ إلى الله .
و " طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة ، بل وإلى آل علم وصناعة ورئاسة ، بحيث يكون رأساً في ذلك مقتدى به فيه ، يحتاج أن يكون
شجاعا مقداماً ، حاآماً على وهمه ، غير مقهور تحت سلطان تخيله ، زاهداً في آل ما سوى مطلوبه ، عاشقاً لما توجه إليه ، عارفاً
بطريق الوصول إليه ، والطرق القواطع عنه ، مقدام الهمة ، ثابت الجأش ، لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل ، آثير السكون ،
دائم الفكر ، غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم ، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته ، لا تستنفره المعارضات ، شعاره الصبر ،
وراحته التعب
إن من يطالب الآن بإلغاء الراحة فإنه إنما يستند إلى مادة واضحة في قانون الدعوة والدعاة سنها عمر الفاروق رضي الله عنه , تنطق
بصراحة أن :
( الراحة للرجال : غفلة ) 2
وجددها إمام المحدثين شعبة بن الحجاج البصري فقال : " لا تقعدوا فراغاً فإن الموت يطلبكم " .
ذلك أن من أراد الراحة و السكون فإن الموت و القبر يزودانه منهما حتى يشبع . وآأننا – والله – قد أسرفنا في الغفلة ، ولا بد من
عزيمة نفطم بها نفوسنا عن اللهو .
إننا حين نثبت جواز التمتع بالمباحات فلكي يعلم من نخاطبه أننا لا ندعو إلى مثل الطريقة المبتدعة التي آان عليها بعض الزهاد من
الجوع والعري والرهبانية ، وإلا فلا يزال جواب ابن الجوزي يصلح جواباً لنا حين سأله سائل : " أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح
الملاهي ؟ " فقال : " عند نفسك من الغفلة ما يكفيها " 3
و ترك الفراغ ، والاستيقاظ من رقدة الغفلة ، معناهما التعب ، ثم التعب ، و استفراغ الوُسع في العمل لله . نطق بذلك الإمام الشافعي ،
ونفى أن تصح مروءة داعية يطلب الراحة ، فقال :
" طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات ، فإن أحدهم لم يزل تعبان في آل زمان " . ولما سئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم
. ليكون من صفوة الله ، قال : " إذا خلع الراحة وأعطى المجهود في الطاعة " 2
طريق رسمه الإمام أحمد لا يسعنا أن نحيد عنه , ومقدار قدره للدعاة ليس لهم أن يقفوا دونه نصيباً مفروضاً ، هو : المجهود من
النفس ، وعلامته حين المحن : الصبر على الأذى حتى الموت . وعلامته في حياتك اليومية : أنك إن جئت إلى فراشك ليلاً لتنام وجدت
لرآبتيك أنيناً ، و في عضلاتك تشنجاً ، لكثرة ما تحرآت في نهارك .
وإنما نسميه التعب ، والأنين ، و التشنج ، لغرض تفهيم الداعية الجديد ، لأن هذه الاصطلاحات هي لغة أهله و عموم الناس الذين
ترآهم من قريب ، و أما في لغة الدعاة فهو محض اللهو الذي تهفو إليه نفوسهم ، و عنهم نقله البحتري في وصفه لممدوحه حين يقول
:
قلب يطل على أفكاره ، ويدٌ **** تمضي الأمور ، ونفس لهوها التعب 4
ومن لا يعلم موازين المؤمنين يظن ذلك حرماناً من لذة ، وخداع ألفاظ ، و غواية اتباع الشعراء ، ولكن من أوتي علم الكتاب يعرف أن
الراحة الحقيقية : راحة الآخرة ، لا راحة الحياة الدنيا ، ولذلك لما قيل للإمام أحمد : " متى يجد العبد طعم الراحة ؟ "
قال : " عند أول قدم يضعها في الجنة " 5
و لما تعجب غافل من باذل وقال له : " إلى آم تتعب نفسك ؟ "
آان جواب الباذل سريعاً حاسماً : " راحتها أريد " 6
" فالطالب الصادق في طلبه آلما خرب شيء من ذاته : جعله عمارة لقلبه وروحه . وآلما نقص شيء من دنياه : جعله زيادة في
آخرته . وآلما منع شيئاً من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته . وآلما ناله هم أو حزن أو غم : جعله في أفراح آخرته " 7
و من لمح فجر الأجر : هان عليه ظلام التكليف ، آما يقول ابن الجوزي .
و لعمرو الله ما هو بظلام ، ولكنها لغة اضطر لها آما اضطررنا ليعقل مراده الراقدون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق