الأحد، 8 يناير 2012

الجمعة (6-1-2012)

الخطبة الثانية مقدمة سلسلة الإيمان باعث النهضة ووقود البناء

الحمد لله ذي العز المجيد والبطش الشديد المبدئ المعيد ، سبحانه وتعالي قسم عباده بين شقي وسعيد من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد

أشهد ان لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، ولا شبيه ولامثيل ولانظير ولاعدل ولانديد

وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه صلاة لاتنفد ولا تبيد

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)سورة فاطر}

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) سورة الأحزاب}

اللهم حقق إيماننا ، وارفع درجاتنا ، واهدنا سبلنا ،

اللَّهَم حَبَّبَ إِلَيْنا الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنا وَكَرَّهَ إِلَيْنا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ واجعلنا من الرَّاشِدُينَ

فَضْلًا مِنَك وَنِعْمَةً إنك أنت العَلِيمٌ الحَكِيمٌ

أما بعد

فإن قضية "الإيمان" ليست أمراً هامشيا يجوز لنا أن نغفله أو نستخف به، أو ندعه في زوايا النسيان، كيف لاوهي قضيةوجود الإنسان ومصيره؟

إنها يا إخواني سعادة الأبد أو شقوته، إنها كما قال رسول الله –صلي الله عليه وسلم - لجنة أبداً أو لنار أبداً .

ونحن في تناولنا لقضية الإيمان ، وكيف أنه تخطي مقاييس التربويين وعلماء السلوك في عظيم أثره ، وفي النقلة التي يحدثها في التجمعات أفرادا كانوا أومجتمعات ، نركز اليوم علي ثلاث نقاط أساسية

1- كيف تفاعلت التجمعات البشرية مع اختلاف توجهاتها ومشاربها وأديانها وثقافاتها وحضارتها وعصورها مع قضية الإيمان .

2- ثم مالذي يميز إيمان المسلمين عن إيمان غيرهم من أصحاب الديانات والمعتقدات الأخري.

3- ثم كيف كان الإيمان هو القضية الأولي في المجتمع الإسلامي الأول.

أولا . كيف تفاعلت التجمعات البشرية مع اختلاف توجهاتها ومشاربها وأديانها وثقافاتها وحضارتها وعصورها مع قضية الإيمان .

والناس في تفاعلهم مع قضية الإيمان مذاهب منهم من آمن بها وقليل منهم من أنكرها ، ولكنه في الغالب الأعم كانت كل الأمم والحضارات ومازالت ترتكن إلي إله تقدسه وتعبده وتعقد فيه وتعتمد عليه في جلبه الخير لهم ومنعه الشر أن يصيبهم ، ولذلك فإن المتمعن في دراسة الحضارات الإنسانيةالمختلفة، والتجمعات البشريةالمنتشرة في الكون من بدايته إلي وقتنا الحاضر يدرك حقيقة يقينه أنه وجدت مدن وحضارات وتجمعات بلا مقومات حضارة بلا مستشفيات بلا مدارس بلا نهضة بلا تقدم ولكنه لم توجد أبدا تجمعات بشرية بلا معابد .

والغالب الأعم من هذه الديانات قامت علي وجود الله ، ولكنهم اختلفوا في كيفية عبادته ،

فما هو السر في وصولهم إلي وجود الله

· منهم من استجاب إلى صوت الفطرة في أعماقه (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (الروم:30).

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)سورة الأعراف}

(ما من مولود إلا ويولد علي الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )

· منهم من تمسك بالرسالات التي وصلتهم من الله بواسطة رسله وأنبيائه ، وهو أمر قاطع وجازم عندنا عقائديا { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)سورة فاطر}وقليل من ثبت علي صبغة فطرته ، أو تمسك برسالته وشريعته

وأما من اجتالتهم الشياطين فحولتهم عن فطرهم التي تقر بوجود الله ، وحرفتهم عن رسالاتهم وشرائعهم ، فأكثرهم ظل متمسكا بقضية الإله

o استنادا على مبدأ "السببية" الذي يقرر أن كل صنعة لابد لها من صانع، وكل حادث لابد له من محدث، وكل حركة لابد لها من محرك، وكل نظام لابد وإن يكون وراءه منظِّم، وهذا المبدأ ثابت ثبوت الأوليات البديهية في العقول.

o ومنهم من ناقش المسألة مناقشة حسابية، رياضية، فانتهى إلى أن الأضمن لحياته، وما بعد حياته: أن يؤمن بالله وبالآخرة والبعث والجزاء وفي مثل هذا يقول الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري:

قال المنجم والطبيب كلاهمـا

لا تبعث الأموات ، قلت : إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكــما

وقال الفيلسوف الرياضي "باسكال":

"إما أن تعتقد أن الله موجود أو لا تعتقد ذلك، فماذا تختار؟ إن عقلك لعاجز كل العجز أن يختار، وإنها لقضية جارية بينك وبين الطبيعة، رمى فيها كل منكما بسهمه، ولابد أن يربح أحد السهمين .. فوازن بين كل ما يمكن أن تربح، وما يمكن أن تخسر.

o ولقد رأينا من المفكرين والفلاسفة من لا يؤمنون بالله ولكنهم يؤمنون بالإيمان بالله! أي يعتقدون بنفع هذا الإيمان باعتباره قوة هادية موجهة، وقوة مؤثرة دافعة، وقوة منشئة خلاقة.

لم يستطع هؤلاء أن يجحدوا ما للإيمان بالله من طيب الأثر في نفس الفرد وفي حياة المجتمع، فقال بعضهم: لو لم يكن الله موجوداً لوجب علينا أن -نوجد -للناس إلهاً يؤمنون به! ويلتمسون رضاه، ويخافون حسابه، حتى ترتدع الأنفس الشريرة، وتستقيم أخلاق الجماهير.
وقال آخر: لم تشككون في الله. ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي؟!

والذي يعنينا من هذه الأقوال جميعا ، أن هؤلاء -وهم خصوم الدين وأعداء الإيمان- لم يستطيعوا أن ينكروا أثر الدين والإيمان في النفس والحياة ، وتلك حقيقة لا يمكن أن يكابر فيه إنسان منصف، ولو كان من خصوم الإيمان.

ونحن نزيد على هذا فنقول: إن الذي يؤمن بالله والدار الآخرة لا يخاطر بدنياه الفإنية ليربح اخرته الباقية كلا، إنه بإيمانه يربح الحياتين معاً، ويفوز بالحسنيين في الدنيا والآخرة جميعا. وصدق الله العظيم:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)سورة الشوري}

(من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) (النساء:134) (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، ولدار الآخرة خير) (النحل: 30).

إن العبادات التي فرضها الدين إنما هي وسائل لتزكية نفس المؤمن وترقية روحه، وما أقل ما يبذل فيها من جهد، إلى جنب ما يكسب وراءها من خير.

وإن المحرمات التي حظرها عليه الدين، إنما صان بتحريمها عقله وخلقه ونفسه وماله وعرضه ونسله، فهو إنما (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الأعراف: 157).

والدين إذا حرم على الناس شيئاً عوَّضهم ما هو خير منه، مما لا يشتمل على مفسدة الشيء المحرم.(ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه )

إن المؤمن لم يخسر شيئاً بعبادة الله سبحانه، واتقائه ما حرم الله عليه، وإنما ربح الهدى والاستقامة على الحق، والثبات على الخير، والاستعلاء على الشهوات، وربح بعد ذلك هدوء النفس وطمأنينة الحياة. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)سورة التغابن}

o وفي عصرنا هذا أصبح دين الكثيرين اليوم (المنفعة)، فالناس يجرون وراء المنفعة لاهثين، حتى أن كثيراً منهم ليرون الحق فيما ينفعهم لا فيما يطابق الواقع أو ما تقوم البراهين على صحته.

وقد قام مذهب برأسه ينادي بأن "المنفعة مقياس الحقيقة" ويصر على أن المهم من كل شيء هو نتائجه وما يترتب عليه من آثار في حياتنا العملية.. وعلى أن الصدق ليس هو مطابقة الخبر للواقع، بل انسجامه مع ما يقع، وهكذا، فكل شيء يحكم عليه بما يتبعه من نتائج، فإن كانت هذه النتائج متناسبة مع أغراضنا، ومع ما نريد من مقدماتها، كانت خيراً وصدقاً وحقاً. وإن كانت غير ذلك كانت شراً وكذباً وباطلاً، ولا يوصف الفعل بحسن ولا قبح، ولا يوصف القول بالصدق والكذب حتى تعرف ثمرته ، هذا هو مذهب "البراجماتزم".

وإننا نوقن أن أنفع شيء للناس هو الحق، وإن أضر شيء بالناس هو الباطل، وقد ضرب القرآن مثلاً للحق بالماء السائل والمعدن النافع، وللباطل بالزبد الرابي على وجه الماء حين يسيل به الوادي، أو الرغوة المنتفخة على وجه المعدن حين يوقد عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع.

ثم قال تعالى معقباً على هذا التمثيل: (كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال) (الرعد : 17).

والذي يمكث في الأرض هو الحق، وهو الذي عبر عنه القران بـ (ما ينفع الناس) إنه ينفعهم مادياً ومعنوياً، ينفعهم أجساماً وعقولاً وقلوباً، وينفعهم أفراداً وجماعات، وينفعهم دنيا وآخرة.

إننا إذا وافقنا على اعتبار المنفعة في الجملة فإننا نختلف مع الماديين في قياس المنفعة، وتحديد نوعها ومداها. نحن لا نقيس المنفعة بالكم وبالمادة فحسب، ولا نعتبر المنفعة الفردية وحدها، بل ندخل في اعتبارنا الكم والكيف والمادة والروح، والفرد والمجتمع جميعاً.
بل نحن لا نقصر المنفعة على الحياة العاجلة هنا، بل نضع في حسابنا دائماً الحياة الآخرة حياة الخلود التي أعدت للإنسان وأعد لها الإنسان.

o ولقد أثبت التاريخ والاستقراء لحياة البشر أن الدين ضرورة لا غنى عنها: ضرورة للفرد ليطمئن ويسعد، وتزكو نفسه. وضرورة للمجتمع ليستقر ويتماسك ويرتفع ويرقى.

والفرد بغير دين ولا إيمان ريشة في مهب الريح لا نستقر على حال، ولا تعرف لها وجهة، ولا تسكن إلى قرار مكين. الفرد بغير دين ولا إيمان إنسان ليس له قيمة ولا جذور، إنسان قلق متبرم حائر، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدرى من ألبسه ثوب الحياة. ولماذا ألبسه إياه، ولماذا ينـزعه عنه بعد حين؟! وهو بغير دين ولا إيمان: حيوان شره أو سبع فاتك، لا تستطيع الثقافة ولا القانون -وحدهما- أن يحدا من شراهته، أو يقلما أظفاره.

والمجتمع بغير دين ولا إيمان مجتمع غابة. وإن لمعت فيه بوارق الحضارة. الحياة والبقاء فيه للأشد والأقوى، لا للأفضل ولا للأتقى مجتمع تعاسة وشقاء وإن زخر بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم.. مجتمع تافه رخيص، لأن غايات أهله لا تتجاوز شهوات البطون والفروج. فهم: (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام) (محمد : 12).

و (العلم) المادي وإن امتد رواقه، واتسعت ميادينه، ليس بمستطيع أن يحقق الطمأنينة والسعادة للناس، لأن العلم يرقي الجانب المادي للحياة، فيختصر الشقة البعيدة، والزمن الطويل، إلى مدة أقصر، ولهذا سموا عصرنا هذا"عصر السرعة" أو عصر "التغلب على المسافات".
ولكن هل يستطيع أحد أن يسميه عصر "الفضيلة" أو عصر " الطمأنينة" أو عصر "السعادة للبشر"؟

إن العلم هيأ للإنسان الحديث وسائل الحياة، ولكنه لم يهده إلى غاياتها، إنه زين له ظاهرها. ولكنه لم يصله بأعماقها، وما أتعس الإنسان إذا أغرقته الوسائل فذهل عن الغايات. وإذا شغل بالسطح عن القاع، وبالقشر عن اللباب!.

العلم المادي أعطى الإنسان أدوات كثيرة، ولكنه لم يعطه "قيمة" كبيرة أو "هدفا" رفيعاً يحيا له ويموت عليه.

ذلك أن هذه ليست وظيفة العلم وليست من اختصاصه. وإنما ذلك من اختصاص الدين.

ونحن حين نتحدث .عن ثمرات الإيمان وآثاره في النفس والحياة إنما نعني الإيمان القوي الدافق. الإيمان حين يبلغ مداه، ويشرق على القلوب سناه، ويخط في أعماق النفوس مجراه، لا نتحدث عن الإيمان الضعيف المزعزع، الإيمان المخدر النائم، إنما نتحدث عن الإيمان الحي اليقظ. ولا يضيرنا أن أصحاب هذا الإيمان قليلون، فإننا نناقش هنا الماديين الذين يشككون في قيمة الإيمان. ليتعلموا أن الإيمان الذي يحاربونه كلما زاد عمقه في القلوب، وسلطانه على النفوس، ازداد أثره المبارك في حياة الأفراد والجماعات.

ثانيا , مالذي يميز إيمان المسلمين عن إيمان غيرهم من أصحاب الديانات والأفكار الأخري.

وإذا كان هذا أثر الإيمان عموماً، فإن الإيمان الإسلامي خصوصاً أكثر نفعاً وأطيب ثمراً، فإن الإيمان في الأديان الأخرى قد علق به ما شابه وكدر صفاءه، وربما أمكن أن يؤخذ من تعاليم بعض الأديان، أو من سلوك رجالها، بأنها عدو للحياة أو أفيون للشعوب. كما زعم "كارل ماركس" اليهودي، وتلقفها الببغاوات هنا، فرددوها ترديد الحاكي، دون بصر ولا تمييز، فإن الدين هنا غير الدين هناك، والمجتمع هنا غير المجتمع هناك.

إن عقيدة الإسلام عقيدة تتسع للروح والمادة، والحق والقوة، والدين والعلم، والدنيا والآخرة، إنها عقيدة التوحيد التي تغرس في النفس الكرامة والحرية، وتجعل الخضوع لغير الله كفراً وفسقاً وظلماً، وتأبى على الناس أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.

وإذا كان للدين وللإيمان هذا الأثر في كل بلاد الدنيا، فإن أثره عميق، وضرورته أعظم في بلادنا الإسلامية والعربية خاصة.

إن لكل قفل محكم أصيل مفتاحاً معيناً، مهما تحاول فتحه بغيره كانت محاولاتك عبثاً لا فائدة منه، ولا طائل تحته. إلا إضاعة الوقت والجهد في تجارب فاشلة.

ومفتاح الشخصية الإسلامية والعربية على وجه خاص هو الدين، هو الإيمان، هو عقيدة الإسلام.

ومهما نحاول أن نذكي هذه الشخصية، وأن نفجر طاقاتها المكنونة بغير مفتاحها الأصيل -وهو الدين والإيمان- فإننا نحاول عبثاً، كمن يبنى على الماء أو يكتب في الهواء.

بعقيدة الإسلام انطلق العرب من جزيرتهم، يخرجون العالم من الظلمات إلى النور، ويؤدبون بسيوفهم الأكاسرة والقياصرة، وكل من صعَّر خده من الجبابرة، وينقلون الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الخالق، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان والظلام إلى عدل الإسلام.

وبعقيدة الإسلام انتصرت أمتنا العربية على أوروبا، وقد جاءت بقضها وقضيضها في تسع حملات صليبية، تريد أن تلتهم الأخضر واليابس في هذا الشرق المسلم.

وبعقيدة الإسلام انتصرت على غزو التتار الذين زحفوا على هذا الشرق كالريح العقيم (ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (الذاريات: 42) وكادوا يدمرون الحضارة الإنسانية كلها، لولا أن قيَّض الله لهم من مسلمي مصر والشام من ردهم على أعقابهم وهزموهم بإذن الله في "عين جالوت". وكان مفتاح النصر صيحة أطلقها القائد المملوكي "قطز" فهزت المشاعر، واستثارت العزائم: وأيقظت الهمم، وهبت بها على المقاتلين نسمات الجنة. تلك هي الصيحة التاريخية "واإسلاماه".

ثالثا, كيف كان الإيمان هو قضية المجتمع الأولي في المجتمع الإسلامي الأول.

إن قضية الإيمان هي أول ما عالج التشريع الإسلامي ، بل ظل القرآن الكريم يتنزل علي رسوله –ص- ليعالج أمرا واحدا أمر إيمان الناس ، ودعوتهم إلي إسلام الوجه لله ، وتوحيد التوجه والقصد له سبحانه ، وتعميق امر الإيمان بالله وتفرده وقدرته والإيمان بكتبه ورسله ،والإيمان باليوم اليوم الآخر

حتي أن المتمعن في قضية التشريع الإسلامي يعلم تمام العلم أنه لم يفرض علي المسلمين في العشرة سنوات الأولي من بعثته –صلي الله عليه وسلم – غير لاإله إلا الله ، وفي السنة العاشرة فرضت الصلاة ،وفي السنة الثانية عشرة من البعثة فرضت الهجرة وفي السنة الثانية من الهجرة والرابعة عشرة من البعثة فرض الصيام والزكاة والجهاد

أي أن المسلمين ظلوا يتعلمون الإيمان أربعة عشرة عاما ثم بدأت الفرائض والأوامر والنواهي تتنزل تتري دون أن تغفل جانب الإيمان ، فكانت الأوامر والآيات تتنزل مبتدئة بما يذكر الناس بإيمانهم ، أو مختتمة به ، حتي كان آخر مانزل من القرآن الكريم {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)سورة البقرة}

وهذا هو ماسجله كبار الصحابة وافتخروا به ، وأرجعوا فضل ثباتهم واستمساكهم وتقدمهم بهذا الدين لهذه التربية الأولي

فقالوا لقد أوتينا الإيمان قبل أن نؤتي القرآن ، فلما أوتوا القرآن علموا للقرآن فضله فأقاموا فروضه ، ووقفوا عند حدوده ، ، وكانت السيدة عائشة –رضي الله عنها –تقول (لو أن أول مانزل من القرآن افعل ولا تفعل ، لما فعل أحد )

وكانوا إذا قابل أحدهم صاحبه سأله عن حال إيمانه ، وإذا أو صاه كانت بإيمانه ، وإذا طلب منه دعوة كانت لأجل إيمانه

ولقد عظم قدر الله في قلوبهم ، فوقروا كتابه ، وأطاعوا رسوله ، ونفذوا تعاليمه ، حتي وصولوا إلي أنهم ينفذون أوامر الله في التوا واللحظة فور تنزل الأمر ، ولقد قال أحدهم معلما ومؤدبا الأجيال التالية من المسلمين ، قائلا (إذا سمعت الله يقول يأيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنه خيريأمر به فتأتمر، أو شر ينهي عنه فتنتهي) ، ولقد سبق قولهم العمل ، وتأديبهم التطبيق واسئلوا شوارع المدينة التي وصفت بأنها وكأن سماء المدينة أمطرت خمرا من كثرة ما أريق من الخمر يوم نزول آية التحريم ، واسئلوا نساء الأنصار الذين شققن مروطهن وتحجبن لحظة نزول آية الحجاب .

وأذكركم بثاني خطبه –صلي الله عليه وسلم – في المدينة لتتلمسوا معي ، ما أقوله ، حيث قام فحمد الله وأثني عليه ثم قال . إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ،قد أفلح من زينه الله في قلبه ، وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ،إنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا ما أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام الله وذكره ،ولا تقس عنه قلوبكم ، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي ، وقد سماه الله خيرته من الأعمال ،ومصطفاه من العباد ، والصالح من الحديث ؛ ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولاتشركوا به شيئا ، واتقوه حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ،إن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم .
"نحن قوم مؤمنون" وهذا الإيمان هو أساس شخصيتنا، وسر قوتنا، ورافع رايتنا، هو سر مجدنا في الماضي، وباعث انتفاضتنا في الحاضر، ومناط آمالنا في المستقبل.

"نحن قوم مؤمنون" وهذه قضية بديهية ، يجب أن يلتقي على حمايتها وتثبيتها وإشاعتها قلم الكاتب، ولسان الخطيب، وفكر الفيلسوف، ووجدان الشاعر، وريشة المصور، وتقنين المشرِّع، وسلطان الحاكم، وقوة الجيش، ورقابة الشعب.

يجب أن يرعاها الأب في البيت، والمعلم في المدرسة، والطالب في دراسته، والتاجر في تجارته، وكل صاحب علم وفن ومهنة في علمه وفنه ومهنته.

إن كل ثغرة تفتح في أي جانب من جوانب حياتنا الثقافية والفنية والعملية لتصوب منها سهام الشك أو الجحود إلى صدر الإيمان، تعد خيانة عظمى لأمتنا وخروجاً سافراً على مبادئها، ومروقاً من صفوفها، وانضماماً إلى ألد أعدائها، وتعويقاً لما تقوم به الجوانب الأخرى من جهاد إيجابي بناء.

وإني لعلى يقين أن كلمة الإيمان ستعلو وتنتصر، وإن كلمة الكفر والشك ستنكثر وتندثر، وصدق الله العظيم: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) (إبراهيم: 24 - 26).

وفي لقائنا المقبل نيدأ في استعراض مكونات وجزئيات الإيمان لنتفاعل معها ثم فيما بعد يكون الحديث عن أثر هذا الإيمان المتدفق المتيقظ علي الفرد والمجتمع والحياة البشرية جمعاء .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق