مقدمة : النفس المؤمنة
انتـقاء
و تجميع العناصر المتميزة بالذكاء والشجاعة من الشباب ، ثم تربيتها تربية عميقة
شاملة صلبة : ركنان أساسيان في خطة الحركة الإسلامية .
وإنه
- كما يقول أبو الحسن الندوي - : " لا بد من إنتاج الرجال الذين يقومون
بالدعوة ويديرون دفتها ، ويربون الرجال ، ويملئون كل فراغ . وكل حركة أو دعوة أو
مؤسسة مهما كانت قوية أو غنية في الرجال فإنها معرضة للخطر ، وإنها لا تـلبث أن
ينقرض رجالها واحداً إثر آخر ، وتـفلس في يوم من الأيام في الرجال " [1].
- على الحركة الإسلامية أن تتفرس في
نفسها :
ولكن
هذه التربية ليست اكتيال جزاف ، فإن أخص خصائصها أنها تلبي نداء الحاجات المرحلية
، وتعالج الواقع . وفي كل أدب أرشد إليه الإسلام خير ، ولكن طاقة ذي النية الصالحة
محدودة ، فـواجب إقرار المفاضلة بين أجزاء هذا الخير ، والبدء بما هو أفضل ، وبما
يسد حاجة المرحلة من بعد تشخيص النقص .
ذلكم
هو الذي يوجب من بعدُ أن تتـفرس الحركة الإسلامية الحاضرة في نفسها فراسة خبرة ،
في خلوة تأمل ، فتحدد نقصها ، وتحصي رصيدها ، ليأذن الله أن تصدق فراستها الأخرى
في الناس ، وتحكم طريقها في هذا التصارع العنيف ، كما قال الزاهد الحكيم سمنون –
رحمه الله – حين سئل عن الفراسة وحقيقتها
، فأجاب :
(
إن من تـفرس في نفسه فعرفها : صحت له الفراسة في غيره و أحكمها ) [2].
وإنه
لمعنى رفيع يكشف عنه سمنون في هذه الحروف القليلة ، ويخولنا إياه ، لنتخذه منطلقاً
لفراسة نقدية نصف فيها أنفسنا و نحدد نقصنا ، ثم تحويل الفراسة إلى دراسة نسلكها
ينابيع في صفوف الدعاة بإذن الله ، فيخرج بها دعاة ، يصدقون بالصدق الذي جاءهم عن
ربهم ، و يحفظون أمره .
ولقد
شهد التاريخ القريب لأجزاء الحركة بعداً عن الموازنة في أساليب التكوين والتربية ،
وطغياناً في جوانب على جوانب أخرى ، فترى منطقة غلبة الجانب التعبدي وتـزكية النفس
، وفي أخرى ترفاً فكرياً ، وفي ثالثة ولعاً بالمشاركة في أحداث السياسة اليومية ،
فاختـلفت الصياغات .
ومن
حيثيات كثيرة يعرفها أهل المعاناة : بدأ يتضح الخط التربوي المتكامل الموزون ،
المستدرِك للنقص ، وتحددت ملامحه في غرس معاني :
v الحرص
على الصلاة و تـثـبـيـت العقيدة .
v والالتـزام
بأدب الأخوة .
v و
الفرح بالبذل و التعب اليومي .
v والشوق
إلى الجهاد و الاستشهاد ، من دون تهور .
v والانضباط
بالطاعة .
v و
التـقـلـل من الدنيا وطلب الخِـفّـة .
v و
ترقب الموت ونسيان الأمل الدنيوي .
v وحب
الله تعالى ، في رجاء يضبطه خوف .
v و
مفاصلة الذين كفروا والذين نافـقوا .
v والصبر
على المحن .
فمن
تحقق في هذه المعاني فهو الصلب الذي يصح أن يعتمد ضمن القاعدة الصلبة للحركة
الإسلامية .
وهذه
الفصول مخصصة لبيان بعض هذه المعاني و التذكير بها ، من خلال مواعظ ترقق القلب ،
وتعين النفس على اكتشاف الطريق الصحيح ، وتؤنسها إذ هي ماضية فيه ، فإن مَدار
حركات هذه الحياة متصل بمحور النفس المترددة بين التـقوى و الفجور ، إن صلحت : كان
لها ظل وارف يهب الأمن لصاحبها ، و مُتسعاً للآخرين ، في امتداد بمقدار هذا الصلاح
. وإن فسدت : كان ثَمّ اضطراب ، و جحيم من القلق .
فمن
أجل التـنبيه على جمال النفس المؤمنة و الحث على الاقتداء بِسَمْتِها : جاء هذا
الكتاب .
ويعجبني
جداً وصف الشاعر التونسي أحمد المختار الوزير للنفس البريئة ، ورمز لها رمزاً ،
جعلها كأنها فراشة ، واقترب كل الاقتراب من إدراك كمال الحقيقة ، تسوقه فطرته إلا
أنه لم يمسكها ، وفاتَه أنه يصف النفس المؤمنة بأبلغ مما وصفها غيره ..
إنها
تأسره إذ هي :
ساكنة
، في صَمتها ، أبْيَنُ ممّن يَنْطقُ
هكذا
هي السيماء الإيمانية : وداعة ، و تفكّر ، و تأمل هادئ ، في إقلال من الكلام
، وبعد عن اللغو ، ولكن تحوطها هيبة مؤثرة
، وجَمال بليغ مفصح .
و إن وَنَتْ وَقْفَتُها : أعْجَلَها
المنطلَقُ
فالوقفات
سُنة من سنن الحياة ، وقدر مقدور على البشر ، إلا أنها عند المؤمن لن تكون
استرخاءً وغفلةً و تمادياً أبداً ، بل هي
تعتري برهة ، ثم تُجْليها محفَّزات كامنة ، من رصيد ذاتي مجموع أو تراث حكمة مركوز
.
لكن
الشياطين تعترض ، تحاول عرقلة هذا المنطلق ، توهم صاحبه ، وتضع العوائق
الثـقال في صور من الزينة ، لها بهرج ، و
تألق ، و بريق ، تغش النفس الهائمة ، ولكن النفس الملهَمة ، التي أُلهمت إيمانها ،
ترى ما وراء ذلك من حقائق تفضح ما خفي من كبرياء مفتعلة ، أو حسد موسوِس ، أو
صدارة متأخرة ، أو حب زيادة مال زائل . فذلك هو حوم الفراشة حول ومضات صورتها على
سطح البحيرة .
أو
هي تجربة النفس المؤمنة ..
لكم رأت خيالَها ، ماجَ به المنْبَثَقُ
كأنه
النجمُ يرفُّ ، والمياه الأفقُ
فحوَّمَتْ
، ترنوا ، تَودّ لو به تّعْتّلِقُ
و
أَوشكتْ ، لو لم تُفِق ، يقضي عليها الغرَقُ
لكنها
مؤمنة ، هيهات ، لا تستحمِقُ
بين
الضلال والهدى : يبدو لها المفترَقُ
نعم
هكذا : المفترق واضح ، والاقتراب يفضح الصورة ، ويزيد الوضوح وضوحاً ، ويبين أنّ
ما ظنته النفس تألقاً من على بُعد إن هو
إلا اهتـزاز .
ولكن
كيف النجاة مع هذا الاقتراب من موجة عالية تفجأ ، فتترك بَلَلاً يُثقِل ، إن لم
يكن الغرق المتلف ؟
من
هنا وجبت الموعظة ، وانبغى التحذير ، في
كلام كمثل هذه الرقائق ، كي لا تهبط النفس المؤمنة ، إذ آمنت ، بشيء من رذاذ
الاقتراب ، بل حياتها في السمو ، و نجاتها في العلو .
إنها
قطعة من البيان نادرة أتى بها الشاعر ، و أهداها الناشئة ، لكنها حكمة المنتهين .
وليس
ذلك بمستغرب في عرف الحكمة الإسلامية ، فإنها أبدية الصواب ، ليس لها مرحلة متطورة
جاءت من بعد سذاجة و تخلّف ، لكنها كما تصلح انتهاء : كانت تصلح توسطاً ، وصلحت
ابتداء ، مع بدء الحياة البشرية ، وآية ذلك أن التوحيد أُوحي إلى آدم عليه السلام
، بدءَ الحياة ، وكان نبياً ، و أُلهمت التقوى إلى هابيل ، فكفَّ يدَه .
فانظر
إشراقة القلب ولطف الإحساس في هذا الرمز المفصح عن طبائع النفس الزكية ، وانظر
بمقابلة غلظ حجاب قلب شاعر ملحد يدعو إلى البهيمية ..
إنما العيشُ في بهيمة اللذة *********** لا ما يقوله الفلسفي
حكمُ كأس المنونِ أن يتساوى **** في حساها الغبي و الألمعي
و يصير الغبي تحت ثرى الأرض **** كما صار تحتها اللوذعي
فسل الأرضَ عنهما إن أزال **** الشكَّ و
الشبهةَ السؤالُ الخفي
وواضح
هنا أن هذا الملحد أشار إلى أن المعاني الحقة هي قول الفلسفي ، لا قول الواعظ
المسلم ، ليتجنب في ظنه ما قد يكون من اتهامة بالمروق عن الدين .
قال
أبو حيان التوحيدي : سمع أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني المنطقي هذه الأبيات
فقال : " هذا النمط مفسدة للشباب الأغرار ، الذين ليست لهم بصيرة في الأمور ،
وهم عبيد الاحساسات الوافدة بالعادات الفاسدة ، والاعتقادات الرديئة بتلقين قرناء
السوء ، وقائل هذا قد عاند الدين ، وخلع ربقة الحياء ، و افصح عن الفساد ، وصَدّ
عن الحكمة ، و قدح بزند الشبهة في النفوس الضعيفة ، والعقول الخفيفة .
يا
مسكين : أَمِن أجل أن الصالح و الطالح و العالم و الجاهل صاروا تحت التراب :
يتساوون في العاقبة ؟
أما
تساوى قوم سافروا من بلد إلى بلد ، فلما بلغوا المقصد : نزل كل واحد في مكان معداً
له ، وتُلقي بغير ما يُلقى به صاحبه ؟
أما
دخل قوم داراً فأُجلس كل واحد منهم في بقعة بعينها وقوبل هذا بشيء و هذا بشيء آخر
؟
ثم
تقول : سل الأرض عنهما ؟؟
قد
سألنا و خبرتـنا : أنها ضمت أجسادهم و جثثهم و أبدانهم ، لا كفرهم و إيمانهم ، و
لا أنسابهم و أحسابهم ، ولا حكمتهم و سفههم ، ولا طاعتهم و معصيتهم ، ولا
أقوالهم وأفعالهم ، ولا يقينهم و شكهم ،
ولا زهادتهم و تسبيحهم ، ولا معرفتهم و توحيدهم ، ولا خيرهم و شرهم ، ولا جورهم و
عدلهم " .
وفي
مثل هاتين القطعتين من الشعر ، وفي التعقيب الذي عليهما ، تتضح بعض جوانب المعركة الدائمة
بين الإيمان و صور الضلال.
وفي
مثل هذا الكتاب مواعظ ، و إخبات ، وزيادة يقين .....
1- تسبيح يَشدّ الملك
دعوة تريد أن تستـقيم إلى الله .
فعليها أن تدلف من باب الاستـقامة إذن .
وبابها المحراب .
وهكذا ، فإن على الدعوة الإسلامية في كل
وقت أن تبدأ عملها من المسجد ، فتصلح العقيدة ، وتعلم دعاتها أدب التعامل الإسلامي
، وبذلك تسقط تـلقائياً كل المقاييس الأخرى في التـفاضل ، من جودة الكتابة ، و
بلاغة اللسان ، و بهرج الشهادات الجامعية .
وإنما جماع الخير في ارتياد المسجد ،
وذخيرة المسجد نعم زاد الانطلاق . ولقد أحصاها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله
عنهما فقال :
" من أدام الاختلاف إلى المسجد
أصاب ثماني خصال :
آية محكمة
و أخاً مستفاداً
و علماً مستطرفاً
و رحمة منتظرة
وكلمة تدله على هدى ، أو تردعه عن ردى .
وترك الذنوب حياء ، أو خشية "[3]
" فالمسجد هو في حقيقته موضع
الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع . هو فكر واحد لكل الرؤوس
، ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل . وكما يشق النهر فتـقف الأرض عند شاطئيه لا
تتقدم , يقام المسجد فتـقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله " [4].
" فما المسجد بناء ولا مكاناً
كغيره من البناء والمكان ، بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله و يضطرب ، فإن
الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها ، وهذه كلها يمحوها
المسجد ، إذ يجمع الناس مراراً في كل يوم على سلامة الصدر ، وبراءة القلب و
روحانية النفس ، ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها
من أعلاه و أسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء ، كأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا
عن أعضائه قبل دخول المسجد ) [5].
ولقد تـفاعل الموفقون مع هذه الأعطيات
التي تمنحهم إياها مساجدهم ، فولعوا بها ، و شدوا إليها شداً أنطق الشاعر بالصدق
فوصفهم بأنهم :
يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا **** (
الله أكبر ) في شوق وفي جذل
أرواحهم خشعت لله في أدب **** قلوبهم من
جلال الله في وجل
نجواهم
: ربنا جئناك طائعة **** نفوسنا ، وعصينا خادع الأمل
إذا سجى الليل قاموه و أعينهم **** من
خشية الله مثل الجائد الهطل
هم الرجال فلا يلهيهم لعب **** عن
الصلاة ، ولا أكذوبة الكسل
ثم ما برح أئمة الموفقين يلحون في
التوصية بذلك ، ابتداء بالصدر الأول ، كمثل عبد الله بن المبارك حين يقول :
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله **** إذا
كنت فارغاً مستريحاً
و إذا هممت بالنطق بالباطل **** فاجعل
مكانه تسبيحاً [6]
و انتهاء بقادة الدعوة في هذا القرن ،
كمثل الإمام البنا حين يوصي أن :
" أيها الأخ العزيز :
أمامك كل يوم لحظة بالغداة ، ولحظة
بالعشيّ ، ولحظة في السحر ، تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملأ ، فتظفر
بخير الدنيا والآخرة . وأمامك يوم الجمعة وليلتها تستطيع أن تملأ فيها يديك و قلبك
وروحك بالفيض الهاطل من رحمة الله على عباده ، وأمامك مواسم الطاعات وأيام
العبادات وليالي القربات التي وجهك إليها كتابك الكريم ورسولك العظيم ، فاحرص على
أن تكون فيها من الذاكرين لا من الغافلين ، ومن العاملين لا من الخاملين ، واغتـنم
الوقت ، فالوقت كالسيف ، ودع التسويف فلا أضر منه " [7]
وكمثل الإمام بديع الزمان سعيد النورسي
حين يخاطبك و يقول : " رُكِّبتَ من القصور والفقر والعجز و الاحتياج ، لتـنظر
بمرصاد قصورك إلى سرادقات كماله سبحانه ، وبمقياس فقرك إلى درجات غناه و رحمته ، و
بميزان عجزك إلى قدرته و كبريائه ، ومن تـنوع احتياجك إلى أنواع نعمه و إحسانه .
فغاية فطرتك هي العبودية .
و العبودية أن تعلن عند باب رحمته قصورك
بـ( أستغفر الله ) و ( سبحان الله ) .
و فقرك بـ ( حسبنا الله ) و بـ ( الحمد
لله ) ، و بالسؤال . و عجزك بـ( لا حول و لا قوة إلا بالله ) و بـ ( الله أكبر ) ،
و باستمداد .
فَتُظْهِر بمراتب عبوديتك جمال ربوبيته
" [8]
و كمثل الإمام المودودي – رحمه الله –
حين يتحدث عن بعث الرسل عليهم السلام لتحقيق غاية العبودية في الأرض ويقول :
" انظروا قليلاً في ما تحرّى النبي صلى الله عليه وسلم من التدرج والترتيب
للبلوغ إلى هذه الغاية ، فقد قام بدعوة الناس – أولاً و قبل كل شيء – إلى الإيمان
، و أحكمه في قلوبهم ، وأتـقنه على أوسع القواعد و أرحبها ، ثم نشأ في الذين آمنوا
تعليمه و تربيته طبقاً لمقتضيات هذا الإيمان تدرجاً بالطاعة العملية – أي الإسلام –
و الطهارة الخلقية – أي التـقوى – و حب الله والولاء له – أي الإحسان . ثم شرع
بسعي هؤلاء المؤمنين المخلصين المنظم المتواصل في تحطيم النظام الفاسد للجاهلية
القديمة و استبدال نظام صالح به ، قام على القواعد الخلقية و المدنية المقتبسة من
القانون الإلهي المنزل من الرب تعالى . ثم لما أصبح هؤلاء الذين آمنوا ولبوا دعوته
من كل وجهة – بقلوبهم وأذهانهم ونـفوسهم وأخلاقهم وأفكارهم وأعمالهم – مسلمين
متـقين محسنين بالمعنى الحقيقي ، وانصرفوا بأنفسهم إلى ذلك العمل الذي ينبغي لعباد
الله المخلصين الأوفياء أن ينصرفوا إليه إذن ، وبعد كل ذلك أخذ النبي صلى الله
عليه وسلم يرشدهم إلى ما يزين حياة المتـقين المحسنين من الآداب والعادات المهذبة
في الهيئة والملبس والمأكل والمشرب والمعيشة والقيام و الجلوس ، وما إلى ذلك من
الشؤون الظاهرة . وكأنني به فتن الذهب و نقاه من الأوساخ و الأقذار أولاً ، ثم طبع
عليه بطابع الدينار ، ودرب المقاتلين أولاً ، ثم كساهم زي القتال . وهذا هو التدرج
الصحيح المرضي عند الله في هذا الباب كما يبدو لكل من تأمل القرآن و الحديث و تبصر
فيهما "[9]
·
أجب نبيك صلى الله عليه وسلم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من تطهر في بيته ، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض
الله ، كانت خطوتاه أحدهما تحط خطيئة ، والأخرى ترفع درجة ) [10]
وقال : ( من غدا إلى المسجد وراح أعدّ
الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح ) [11]
وقال : ( أعظم الناس أجراً في الصلاة
أبعدهم فأبعدهم ممشى ، و الذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من
الذي يصلي ثم ينام )[12]
و عن جرير رضي الله عنه قال : ( بايعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة ) [13]
و سأله ابن مسعود : أي العمل أحب إلى
الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) [14]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن
وضوءها و خشوعها و ركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأتي كبيرة ،
و كذلك الدهر كله ) [15]
وكانت آخر ابتسامة للنبي صلى الله عليه
و سلم في الدنيا : ابتسامته للصلاة ، و ذلك لما كشف ستر الحجرة يوم الإثنين فرأى
أبا بكر يؤمّ الصفوف .
وحث على صلاة الفجر وصلا ة العشاء فقال
: ( من صلى البردين دخل الجنة ) [16]
وقال – وقد نظر إلى البدر - :
( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا
تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها
فافعلوا . ثم قرأ : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب }[17]
وقال : ( الذي تـفوته صلاة العصر كأنما
وُتِرَ أهله و ماله ) أي فقدهما ، وفي لفظ :( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ) [18]
فأنت أيها الداعية ما بين ترهيب ينذرك
النبي صلى الله عليه و سلم فيه حبوط العمل
وترغيب يشوقك فيه إلى قصور الجنة و رؤية الله فيها ، فأجب ، و إنه لثمن
يغري و يطمع و يحرص عليه قبل الكساد ، وكن عند حسن ظن الفضيل ابن عياض فإنه تحدى
وقال : ( ما حليت الجنة لأمة ثم لا ترى لها عاشقاً ) ، عاشقاً يخرج من أجلها في
البردين ، وقل له : إني أنا العاشق .
فإن وجدت من نفسك ثقلاً و تكاسلاً فهناك
مخاطبة لطيفة يمكن لك أن تخاطب بها نفسك فتـقول : هب أنك من العسكريين ، أو من
عمال المخابز ، أو الصيادين أو .. ، أما كان يجب عليك التبكير في الاستيقاظ قبل
الموظف و الطالب طاعة للنظام العسكري أو تـنافساً في طلب الرزق ؟ فالله سبحانه أحق
أن يطاع ، وصلاة الفجر أحق أن ينافس فيها . فبمثل هذه المخاطبة لنفسك يحصل الحث
لها إن شاء الله إن تراخت واستأنست بالنوم .
و إذا ألممت بذنب أو خطأ فاستدرك
بالركوع ، فإن داود عليه السلام لما جاءه الخصم يختصمان في النعاج انتبه و استدرك
و وصف الله تعالى انتباهه فقال : { وظن داود أنما فتـناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً
وأناب * فغفرنا له ذلك ) [19]
فجعل الاستغفار و الركوع طريقة ، يعلم
بذلك الدعاة أن يركعوا .
·
حرص الأولين على الصلاة
وكان
السلف الصالح يستحبون الأناة في كل شيء ، إلا في الصلاة ، فقد قيل للأحنف بن قيس
رضي الله عنه : ( إن فيك أناة شديدة ) فقال : ( قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا
حضرت حتى أصليها ) [20]
وكان
المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له : ( الصَفّي ) ، لأنه كان يلزم الصف الأول في
مسجد البصرة خمسين سنة [21].
و
مثله : إبراهيم بن ميمون المروزي ، أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن
أبي رباح ، وكانت مهنته الصياغة و طرق الذهب و الفضة . قالوا : ( كان فقيهاً
فاضلاً ، من الآمَّارين بالمعروف . وقال ابن معين : كان إذا رفع المطرقة فسمع
النداء لم يردها ) [22].
وقيل
لكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة
كاملة ، فقال : " ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله " [23]
وقال
قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي ، وهو من ذرية ابن قدامة صاحب كتاب المغني
: " لم أصلّ الفريضة قط منفرداً إلا مرتين ، وكأني لم أصلهما قط " [24]
مع
أنه قارب التسعين .
و
الداعية السعيد من يتأمل و يقتدي .
·
دعوة تتعلم من داود
وكان
داود عليه السلام يسبح بالعشيّ و الإشراق ، فسخر الله تعالى الجبال يسبحن معه ،
وقال : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الإشراق } ، فوهبه الله هبة عظمى
ذكرها فقال : { وشددنا ملكه } [25]
و
دعوة تدعي أنها إسلامية لا يشد ملكها اليوم و تغلب مالم يسبح رجالها بالعشي و
الإشراق .
وإن
التواصي بالصلاة لحسنة نقترفها يزيد الله لنا فيها حسناً ولا بد لنا أن نجعلها كلمة
باقية في عقبنا من أجيال الناشئة الجدد ، فإن لم نفعل ، فإن عقد الدعوة سينفرط –
لا سمح الله – انفراطاً ما له من فواق .
2- الدقائق الغالية
سجود
المحراب ، واستغفار الأسحار ، و دموع المناجاة : سيماء يحتـكرها المؤمنون .
ولئن
توهم الدنيوي جناته في الدينار ، والنساء ، والقصر المنيف ، فإن :
ولقـد
منَّ الله على الناس بكثير من المباح الحلال يفند الرهبانية ، ولكن المؤمن له لذة
كلما توجه إلى ربه بصفاء روح ، تتضاءل بجانبها لذة المباح ، فيهجر الكثير منه
حذراً من كدر يعكر الصفاء الذي هو فيه .
جرب
ذلك المؤمنون قديماً ، زمن العيش البسيط ، وجربه المؤمنون اليوم ، زمن المدنية
المعقدة .
بل
إن الصلاة في يوم هذه المدينة لأظهر في إضفائها السرور ، فبينما يطيل التعقيد على
الإنسان حياته الحاضرة ، فيسأم ، ويمل ، و يضجر ، تختصرها الصلاة إلى بضع ساعات
فحسب ، فيعيش في اطمئنان ، وراحة بال ، ولئن كان لنظرية آينشتاين في نسبية الوقت
نصيب من الصحة ، فإن في الصلاة هذا النصيب ، كما يشرحه مصطفى صادق الرفاعي و يقول
:
"
يا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات ، لتبقى الروح أبداً
إما متصلة أو مهيأة لتتصل ، ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه أنه
متوجه بعدها إلى ربه ، فخاف أن يقـف بين يديه مخطئاً أو آثماً ، ثم هو إذا ملك
نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى ، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا
يزال من عزيمة النفس و طهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير ، كأنه
بجملته – مهما طال – عمل بضع ساعات " [27]
فطول
الحياة نسبي .. هو طويل جداّ ، مخيف مظلم للجاهلي .. وهو قصير ، هين منير للمصلي .
وحياة
الجاهلي ركود مستمر . و حياة المصلي حركة ، تـزيد صواباً ، أو تستدرك اعوجاجاً .
و
إنها ( الله أكبر ) تـنهي هذا الركود ، و تؤسس الحركة ( الله أكبر ) .
بين
ساعات و ساعات من اليوم ترسل الحياة في هذه الكلمة نداءها تهتف : " أيها
المؤمن : إن كنت أصبت في الساعات التي مضت ، فاجتهد للساعات التي تتلو . و إن كنت
أخطأت فكـفّـر ، وامح ساعة بساعة " [28]
وأظهر
حركة يولدها التكبير : حركة التمييز و الفرقان ، بين أولياء الرحمن و أولياء
الشيطان .
فـإنك
إن قـلت : { اهـدنا الصراط المستـقيم * صراط الذين أنعمت عليهـم غير المغـضوب
عليهم ولا الـضالين }
استشعرت
في كل ركعة طائفة من هذه الأصناف الثلاثة ، و تخصص كل ركعة لمن ظهر منهم في زمن
واحد ، أو بلد واحد ، فتجول في ركعات يومك بلاد الإسلام أجمع ، وتستعـرض تاريخ
الإسلام أجمع .
ففي
ركعة تذكـر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار رضي الله عنهم مثلاً لمن أنعم
الله عليهم ، و تذكر أبا جهل ومسيلمة مثلاً للمغضوب عليهم والضالين .
وفي
ركعة أخرى تذكر هوداً وصالحاً - عليهم السلام - مثلاً ممن أنعم الله عليهم ،
وعاداً وثمود من الهالكين .
وفي
ركعة أخرى تذكر الحسن البصري وابن سيرين و ابن المسيب ممن أنعم الله عليهم ، و أهل
الردة ، و الجهم بن صفوان ، و الجعد بن درهم من المتخبطين .
وفي
أخرى تذكر الإمام أحمد بن حنبل ورهطه من المحدثين الموفقين، وبشراً المريسي وابن
دؤاد من الظالمين .
وفي
أخرى تذكر ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي من المصلحين ، وأصحاب وحدة الوجود
والفناء الموهوم و الشطح والابتداع من المدلسين .
وفي
أخرى تذكر الإمام البنا وعودة وسيد ، وثباتهم أمام الطغاة المتجبرين .
وبذلك
تعـقـل صلاتك ، والمرء ليس له من صلاته إلا ما عـقـل منها ، و تجدد عهدك مع أجيال
المؤمنين ، وتـنبذ المفسدين ، وتـلك هي حركة الإيمان ، فإن الإيمان الحق ما أخذ
منك الولاء ، وتركك على المفاصلة .
·
رجال مدرسة الليل
ولكن
تمام التذكر يكون مع الهدوء والسكون .
فمن
ثم كانت مدرسة الليل .
وكان
ترغيب الله للمؤمنين أن يجددوا سمت الذين {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون *
وبالأسحار هم يستغفرون} وإذا انتصف الليل ، في القرون الأولى ، كانت أصوات
المؤذنين ترتفع تـنادي :
يارجال الليل جدوا **** رب صوت لا يرد
مـا يـقـوم الـلـيل إلا **** مـن لـه عـزم وجِـدُّ
و
إنها حقاً لمدرسة ، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يذكوا شعلة حماستهم ، وينشروا
النور في الأرجاء التي لفتها ظلمات الجاهلية .
و
إنها تجربة إقبال يوجزها فيقول :
نـائح والـلـيـل سـاج سادل **** يـهجـع
الناس و دمـعي هـاطل
تصطلي روحي بحزن وألم **** ورد ( يا قوم ) أنسي في الظلم
أنـا كالـشـمع دمـوعي غـسـلي **** في ظلام الـليـل أذكي شعـلي
مـحفـل الناس بـنوري يشـرق **** أنـشر النور و نـفسي أحرق [29]
و
إن دعوة الإسلام اليوم لا تعتـلي حتى يذكي دعاتها شعلهم بليل ، ولا تشرق أنوارها
فتبدد ظلمات جاهلية القرن العشرين مالم تلهج بـ( يا قيوم ) .
ما
نقول هذا أول مرة ، وإنما هي وصية الإمام
البنا حين خاطب الدعاة فقال :
"
دقائق الليل غالية ، فلا ترخصوها بالغفلة " [30]
أفعيينا
أن نعيد السمت الأول ، أم غرنا اجتهاد في التساهل و التسيب و الكسل جديد ؟
إن
القول لدى الله لا يبدل ، ولكنا أرخصنا الدقائق الغالية بالغفلة ، فثقـل المغرم
ولم يجعل الله لنا من أمرنا يسراً .
إن
انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور ، بل برجعة نصوح إلى العرف الأول ،
ومتى ما صفت القلوب بتوبة ، و وعت هذا الكلام أذن واعية : كانت تحلة الورطة
الحاضرة التي سببتها الغفلة المتواصلة .
ذلك
شرط لا بد منه .
و
كأن النصر حجب عنا لأننا نادينا من وراء الحجرات ، وجهرنا رافعين أصواتـنا نوجب
على الله لنا هذا النصر بادلال ، نبيعه و نثبت لنا حقاً عاجلاً في الثمن من دون أن
نقدم بين يدي بيعنا همساً في الأسحار ، ولا الدمع المدرار ، و إنما النصر هبة محضة
، يقر الله بها عين من يشاء من رجال مدرسة الليل في الحياة الدنيا ، ولا يلت
الآخرين المحصرين من ثمنهم في الآخرة شيئاً ، ويوقع أجرهم عليه .
إن
تعلم الإخلاص ، وفضح الأمل الكاذب الدنيوي أجلى أعطيات مدرسة الليل ، كما يقول
وليد ، وذلك ما توجب تربيتـنا تركيزه وتعميقه في
النفوس . قال ، والحق ما قال :
ياليل قيامك مدرسة **** فيها القرآن يدرسني
معنى الإخلاص فألزمه **** نهجاً بالجنة يجلسني
و يبصرني كيف الدنيا **** بالأمل الكاذب تغمسني
مثل الحرباء تلونها **** بالإثم تحاول تطمسنى
فأباعدها و أعاندها **** و أراقبها تتهجسني
فأشد القلب بخالقه **** والذكر الدائم يحرسني [31]
وأكثر
من هذا فإن من يتخرج في مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله ،
والمتخلف عنها يابس قاس تـقسو قلوب الناظرين إليه، والدليل عند بشر بن الحارث
الحافي منذ القديم ، شاهده وأرشدك إليه, فقال :
"
بحسبك أن قوماً موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وأن قوماً أحياء تـقسو القلوب برؤيتهم
" .
فلم
كان ذلك أن لم يكن ليل الأولين يقظة ، وليل غيرهم نوماً ؟ ونهار الأولين جداً ،
ونهار الآخرين شهوة ؟
·
أتسبقك الحمامة ؟
وإنه
لقـلب رقيق قلب الفقيه الزاهد أبي سهل الصعلوكي ، يظهره تأنيبه لنفسه في قوله :
أنام على سهو و تبكي الحمائم **** وليس لها جرم ومني الجرائم
كذبت لعمرو الله لو كنت عاقلاً **** لما سبقتـني بالبكاء الحمائم
[32]
فإن
الذنب لا يغسل إلا بدمع ، و الشجاعة تسقى
بدموع الليل ، وما عرف تاريخ الإسلام رجاله إلا كذلك ، ولم يقل ابن القيم باطلاً
في وصفه لهم بأنهم :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم **** بتلاوة ، وتضرع و سؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم **** مثل
انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان ، وعند جهادهم **** لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم **** وبها أشعة نوره المتلالي [33]
و
سَأَلَ عبد الوهاب عزام الليل عن أروع أسراره ، فأبان جوابه عن إصابة المؤمنين
والمذنبين في تحريهم إياه و استمع لتحاورهما :
قلت لليل : كم بصدرك سر **** أنبئني ما أروع الأسرار ؟
قال : ما ضاء في ظلامي سر **** كدموع المنيب في الأسحار[34]
أفترى المؤمنين إلا
مصدق بجواب الليل ، فهو مسارع مستبق ؟
أم
ترى أهل البلاغة إلا في إذاعة لما قال ؟ يستملون الناس :
فاز من سبح والناس هجوع
يدفن الرغبة ما بين الضلوع
و يغشيه سكون و خشوع
ذاكراً لله والدمع هموع
سوف يغدو ذلك الدمع شموع
لتضيء الدرب يوم المحشر سجدة لله عند السَحَر[35]
و
يلقنون المذنبين المخطئين طريق الجنة ، فيستملون المسرف في أخرى أن :
عد إلى الله بقلب خاشع
وادعه ليلاً بطرف دامع
يتولاك بعفو واسع
و يبدل كل تلك الحسنات حسنات أجرها لن ينفدا
كل هذا العفو للعبد المنيب
سابغا من خالق الكون الرحيب
للذي تاب إليه من قريب [36]
3- الابـــتـــدَاء
كل
ممارس للعمل التربوي الإسلامي الحركي يلحظ لا بد ظاهرة سقوط البعض وتراجعهم ، فأنت
ترى داعية سالكاً مع السالكين ، و تظن أنه سيثبت ، و لكنه يخيب ظنك أثناء الطريق ،
بأن تصدمه رهبة أو رغبة ، أو يستأسر لنداء نفس وهوى ، فيغتر ، و يستولي عليه التيه
إدلالاً وامتـناناً ، فيصيبه الفتور .
وربما
استعصى تعليل مثل هذه الظاهرة حيناً ، ولكن تـفرّسنا في أنفسنا ، و التـنقيب عن
الفقه التربوي في آثار رجال التربية الأقدمين : بدأ يرينا ملامح من التـفسير لها ،
إن وُعِيت حق وعيها لكان فيها بإذن الله ثبات القـلوب ، ولوُقِينا زلل الأقدام بعد
ثبوتها .
·
هو صفاء الابتداء
فأما
الشاعر : فيشير إشارة عامة إلى تـفسير مثـل هذه الظاهرة ، ويـقول :
وكل امرئٍ - والله بالناس عالم - **** له عادة قامت عليها
شمائله
تـعوّدها فـيمـا مضى مـن شـبابه **** كـذلك يـدعو كـل أمـر
أوائـله
والشاهـد
فيه : الشطـر الأخير ، فكـل أمـر تغـلب عليه الصفـة التي بدأ بها .
ولكن
أساتذة التربية الأوائل قربوا أدنى من الشاعر ، فاتضح وانكشف لنا مذهبهم ، بما
فصّلوا وعينوا من معنى أوائل الأمور .
منهم
من صاغ ذلك في حروف قليلة شاملة ، فقال : " الفترة بعد المجاهدة : من فساد
الابتداء " .
ويريد
بالفترة : الفتور .
فهـو
الابتداء إذن ، أي الخطوات الأولى للداعية المسلم في طريق الدعوة الموصل إلى الله
، تـكون صحيحة ، فيرتـقي بلا فتور ونكوص ، وإن فتـر فبـمـقـدار لا يتعدى أدنى ما
أثـر من سنّـة النبي صلى الله عليه وسلم . وتـكون معيبة هذه الخطوات ، فيفتـر و
ينكص عن الارتـقاء .
ولكن
من أين يعترض الداعية الفتور إذا دفعه مربّوه بـقوة أول مرة ؟
و
كيف لا يتسارع في يومه وغده سير من قطع به أمسه مرحلة نحو غايته ؟
و
من أيقن أنه يتبع رسولاً من أولي العزم ، صلى الله عليه وسلم ، فكيف لا يستمد من
عزمه ؟
فهي
الخطوات الأولى إذن : من جعلناها له متـقنة : ثبتت بعد ذلك قدمه ، بما يشاء الله ،
ومن تركناه يضطرب فقـد أعطينا لشيطانه المقص يقطع به حبل ما بيننا و بينه ، يتربص
لذلك غـفـلة .
فإن
لم يحصل الشيطان على المقـص ، وفاتته المفاجأة ، فإنه يقنع بأن يمسك طرف الحبل
يفلّ خيوطه بتدريج ، ويلقي في نفس من
اعوجت بدايته الدعاوي ، ويريه قليل خيره وعمله كثيراً ، حتى يستولي عليه الغرور
والتطاول ، فيرتكس هالكاً .
وهذه
العقدة الثانية للشيطان أبصرها آخر من الصالحين ، ووصفها يحذرنا ، فقال : "
إنما تتولد الدعاوي من فساد الابتداء ، فمن صحت بدايتـه : صحت نهايته ، ومن فسدت
بدايته : فربما هلك " .
بل
يهلك في الأغلب ، فإن مبني البداية على التجرد ، فإذا حرم من صفائه في الأول فإن
بنيانه يظل مهتـزاً مهما شمخ عالياً ، بل الخطر كل الخطر عليه في الحقيقة إذا شمخ
، فإنه يسرع إلى التمايل عند كل نداء ببدعة أو دعوة لمغنم ، لأن من شأن الشيطان أن
يزين البدعة و يجملها ، و أن من شأنه أن يستغل وقت الحاجة ليغري ، ولئن تردد هذا
الرجل الصالح فذكر مجرد الاحتمال و استعمل كلمة ( ربما ) ، ولئن تردنا فاقتصرنا
على ( الأغلب ) ، فإن ثالثاً قد جزم بذلك فقال : " من لم يصح في مبادئ إرادته
: لا يَسلم في منتهى عاقبتـه " .
وما
هو بنسيان منه لمشيئة الله تهدي و تـثبت من يختار ، ولكنه يتحدث عن تجربتـه في
التربية ، ويقدم تـقريره عن نتائج تـفتيشه واستـقـراء أحوال من عرفهم .
وهكذا
تـكون عنايتـنا بالابتداء خطاً بارزاً ظاهراً في فنّناً التربوي الحركي .
·
وهي النية الحرة
وإنما
يعنون بصفاء الابتداء معنيين يتتابعان في توال ، فيتلازمان : النية الصالحة ،
والهمة العالية ، حصرهما البحتري في شطر مبين و سماهما :
نفس تضيء ، وهمة تتوقد [37]
و
النفس المضيئة كناية عن النفس التي احتوت نية صافية ، فهي تـنير بما يكون لها من
هذا الصفاء .
وهي
: ( النية الحرة ) التي ذكرها البحتري أيضاً في بيت آخر[38]
، فأحسن الوصف وأجاد ، فكأنها حرة مما يقيد غيرها ، من الأهواء والأطماع والمصالح
، لم يستعبدها درهم ولا دينار ولا جمال أنثى ، ولم تكن رقيقاً لمنصب أو شهوة .
فالداعية
لا يصدر قط عن شهوة ، ولا طلب مصلحة ، و إنما له في كل حركة وسكنة تطلعات إلى
الأجر .
وكذلك
كان الصالحون .
وبهذا
الوصف وصف هشام بن عبد الملك ابن عمه عمر بن عبد العزيز الأموي رحمه الله فقال :
" ما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية " [39]
. ولذلك استطاع عمر في أقل من سنتين تقويم اعوجاج جيلين ، وعلى داعية الإسلام
اليوم أن لا يستـكبر عظم الانحراف الذي عمّ بلاد الإسلام ، فإنه – إن قَرن كل خطوة
بنية مثل الراشد الخامس – سيهزم حزبين بإذن الله في أقل من سنتين .
و
يتعاظم الخير في عقود المؤمنين مع الله كلما زاد تجردهم حين العقد ، ولذلك رأت
الدنيا عظم الخير في ولاية عمر بن عبد العزيز لما تجرد سليمان بن عبد الملك رحمه
الله محض التجرد حين عقد له واستخلفه وقال :
"
لأعقدنَّ عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب " [40]
.
بل
العمل الصغير بالنية يعظم ، كما يشير عبد الله بن المبارك في قوله : " رُب
عمل صغير تعظمه النية ، ورب عمل كبير تصغره النية " .
ومعقود
اللسان من الدعاة يصبح بالنية ناثراً من فيه جواهر البلاغة الآسرة للناس ، كما ينص
على ذلك طب عبدالقادر الكيلاني في قوله : " كن صحيحاً في السر : تكن فصيحاً
في العلانية " [41]
وأما
المخلط في نيته فيخلط عليه في أموره وسيرته ، كان ذلك في التاريخ على أهل التخليط
حتماً مقضياً ، وهو المعنى الذي كشفه التابعي الجليل مُطرَّف بن الصحابي الجليل
عبد الله بن الشخِيّر العامري في قوله : " صلاح العمل بصلاح القـلب ، وصلاح
القـلب بصلاح النية ، ومن صفا : صُفّي له . ومن خلط : خُلَّط عليه " .
ونتيجة
التخليط أن يضطرب القلب في فوضى تعدم السكينة ، و " إن الخطأ الأكبر أن
تـنظيم الحياة من حولك ، وتترك الفوضى في قلبك " ، كما يقول مصطفى صادق
الرفاعي [42]
.
فاعرف
سياسة النفس هذه أيها الداعية ، وأتقِن ولوجها قبل ولوج سياسة الحكم ، فإنه :
" فرض على العامل أن يعرف النية من الأمنية " , كما قيل .
فهناك
نية وهناك أمنية ، والأمر كما قال يحيى بن معاذ : " لا يزال العبد مقروناً
بالتواني , مادام مقيماً على وعد الأماني " [43]
.
وما
اختار أحدٌ الأماني تـقوده إلا كان أثـقـل ما يكون خطواً ، ووجد ثَم السراب الخادع
، وعّدِم الماءَ وقت العطش ، وأما المضيء النفس ، ومن لا أمنية له من الدعاة ،
فإنك تجده سبّاقاً إلى كل خير أبداً ، وتجده على ري دوماً فإنه إن كان ذا قوة : استـقى لنفسه ، أو استسقى ،
فيجيبه الله بهطل من السماء ، وإن كان مستضعفاً : وجد وريثاً لموسى عليه السلام ،
يسقي له ويزاحم الرعاع .
·
وهو قدم الهول
والهِمّة
قرينة النية ، فلا شيء بعد النية قبلها ، وكل الاتـقان بعدها ، ومن أكسبها من
المربين تلاميذه عند خطواتهم الأولى فقد ضمن لهم الاستمرار إن شاء الله , و قد قيل
: " همتـك احفظها ، فإن الهمة مقدمة الأشياء ، فمن صلحت له همته وصدق فيها :
صلح له ما وراء ذلك من الأعمال " .
ويمثل
لها ابن القيم بمثل لطيف ، فيقول : " مثل القلب مثل الطائر ، كلما علا : بعد
عن الآفات ، وكلما نزل : احتوشته الآفات " [44]
.
فكما
أن الاستعلاء بالهمة يبقي القـلب نظيفاً بريئاً من المعنى الخسيس مشغولاً بالعظام
، فإنه أيضاً يقي القلب الآفات والأمراض
وسهام الشيطان ، كما تـقي نهضة الجناحين الطائر سهام الصياد ، و مهمة
المربي المسلم : أن يعلم الناشئ هذه النهضة العالية في مبادئ محاولاته .
و
نهضة الجناحين هي بدورها كناية عن النفس التي احتوت تصميماً على حمل أثقال الدعوة
إلى الله ، فإن الجديد في سلك الدعوة إن فهم الدعوة في الأول مجرد تـزكية نفس ، و
صحبة أخيار ، وبث أشواق ، وفرصة تكافل ، فإنه يحجم عن إنكار المنكر على الظالم ، و
يستعـصي عليه فهم معادلة ابن يزدانيار في الفراسة ، والتي فهمها من قبله الرجال ،
ويـرجع عن الزحف يوم الزحف و قائمة أعذاره تحت أحد إبطيه ، أولها : أنه لم يُنذر
بمثل هذا من قبل ، ولا يحتوي هذا الشرط عقده ، ولذلك حرص رجال التربية على أن تكون
أول خطوة للسالك : خطوة هّول ، كخطوة السبعين من قدماء الأنصار ساعة بيعة العقبة
حين أخذوا على أنفسهم أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه
نسائهم وأبنائهم وأموالهم .
فهو
هول الجهاد ، أو هول الإنكار ، وليس ما في التجافي عن دار الغرور ذات الشهوات و
التـقليـل من الأموال و الملذات بأقـل من هذين الهولين .
فإن
أحب الدنيا فإنما يحبها كحب محمد بن أحمد المعروف بابن رزقويه ، ذلك الحب الذي
يكشف عن همة عالية وراءه ، والذي ترجمه مخاطباً تلامذته :
"
والله ما أحب الحياة في الدنيا لكسب ولا تجارة ، ولكن لذكر الله ، ولقراءتي عليكم
الحديث " [45]
وإنما
ذكر الحديث كمثل لجنس الصالحات التي يجب على الداعية أن يحب الدنيا لأجلها لا
لغيرها .
وعن
أجيال السلف أخذ جيل المجددين في هذا القرن فـقه الهمة ففهم الإمام حسن البنا أن
الداعية الهمام : " يبذل كل ماله ، وكل دمه ، وكل نفسه ، في سبيل عقيدتـه
التي آمن بها وعاش من أجلها " [46]
.
4- نحو أفراح الآخرة
لقد
وصف الصالحون لنا سمات الابتداء لنأخذ بأحسنها ، و لئن كان بعضنا ينسى ، في ظروف
غفلة ، فإن الله خير الغافرين ، وليس له أن يقعد بعد الذكر مع القوم الغافلين ،
وإن عنده لذخيرة من فقه الأولين تعينه على سلوك سبل الرشد الفجاج الواضحة الموصلة
إلى رب العالمين .
وإن
تـقوى الـقـلوب في الحقيقة هي التي تـقود تقوى الجوارح ، كما قال تعالى : { ذلك
ومن يعظم شعائـر الله فإنها من تـقوى القلوب } . وقال : { لن ينال الله لحومُها
ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التـقوى
ها هنا ) ، وأشار إلى صدره .
"
فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية ، مع
العمل القليل ، أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك ، مع التعب الكثير والسفر
الشاق ، فإن العزيمة والمحبة تـذهب المشقة وتطيب السير ، والتـقدم والسبق إلى الله
سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة ، فيتـقدم صاحب الهمة ، مع سكونه ، صاحب
العمل الكثير بمراحل ) [47]
·
استعلاء .. ثمنه التعب
وإنما
أرشدك الصالحون طريق الاستعلاء والسيادة بالنية والهمة ، وعليك تعبه وركوب مصاعبه
، وذلك : إن السيادة نهج واضح الوعر .
وليس
أمرها بالهيَّن ، وإنما هي قول ثـقيل ألقاه الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم
وعلى أتباعه : يجب أن يسودوا .
ويمكن
لهذا الثـقـل أن تخـففه النية ، فيتعاظم تأثير التعب القليل بصلاحها ، كما أشار
الذين وصفـوا الابتداء ، ولكن هداية القـلب ، وإضاءة النفس ، ونهضات الهمة ، إنما
يذكيهن الجد ، فمن أرادهن دائمات : أدام جده ، وهـو معنى قولهم : ( استجلب نور
القلب بدوام الجد )
فلا
بد من الجد الدائم ، لأن خواطر الفكر دائمة ، وحركات الجوارح متصلة ، فإن لم يكن
الجد معهن دائماً : شغلهن ما هو دونه أو ضده ، فيكون الهبوط من بعد الاستعلاء ،
يحذرك إياه عبد الوهاب عزام ، و ينبهك أن :
"
الفكر لا يحد واللسان لا يصمت ، والجوارح لا تسكن . فإن لم تشغلها بالعظائم :
شغلتها الصغائر .
و
إن لم نُعمِلها في الخير : عملت في الشر .
إن
في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين ، و نفوراً عن المكره والشاق ، فارفع نـفسك ما
استطعت إلى النافع الشاق ، ورضها وسسها على المكروه الأحسن ، حتى تألف جلائـل
الأمور وتطمح إلى معاليها ، وحتى تـنفر عن كل دنية و تربأ عن كل صغيرة .
علمها
التحليق : تكره الإسفاف . عرّفها العز : تـنـفر من الذل .
وأذقها
اللذات الروحية العظيمة : تحقـر اللذات الحسية الصغيرة " [48]
·
و أنت صاحب إيمان :
" وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة
الناس في أمر هذا الإيمان ، لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس ،
وتتـفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتـفتح له أبداً وهو قاعد آمن ساكن ، وتتبين له حقائق في الناس وفي
الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة ، ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره
وتصوراته ، و بعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته ، ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون
هذه التجربة الشاقة العسيرة .
وهذا
بعض ما يشير إليه قوله تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } ،
وأول ما تـفسد : فساد النفوس بالركود الذي تأسن معه الروح ، وتسترخي معه الهمة ، و
يتلفها الرخاء و الطراوة ، ثم تأسن الحياة كلها بالركود ، أو بالحركة في مجال
الشهوات وحدها ، كما يقع للأمم حين تبتلى بالرخاء " [49]
·
وأتعب الناس من جَلّت مطالبه
·
وأنت حر كريم
و
" لا يرمي الحر الكريم إلا أن يبلغ الأمد الأبعد في كل ما يحاوله فلا يألو أن
يبذل جهده إلى غاية الطاقة و مبلغ القدرة ، مستمداً قوة من بعد قوة ، محققاً السحر
القادر الذي في نفسه ، متلقياً منه وسائل الإعجاز في أعماله ، مرسلاً في نبوغه من
توهج دمه أضواء كأضواء النجم تثبت لكل ذي عينين إنه النجم لا شيء آخر " [50]
- و أنت صاحب غاية :
و
إنما يوصل الداعية إلى غايته : " شغفه بدعوته و إيمانه ، و اقتـناعه بها ، و
تـفانيه فيها ، وانقطاعه إليها بجميع مواهبة وطاقاته ووسائله ، وذلك هـو الشرط
الأساسي والسمة الرئيسة للدعاة " [51]
- و أنت طالب نفوذ إلى الله .
و
" طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة ، بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة ، بحيث
يكون رأساً في ذلك مقتدى به فيه ، يحتاج أن يكون شجاعا ًمقداماً ، حاكماً على وهمه
، غير مقهور تحت سلطان تخيله ، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه ، عاشقاً لما توجه إليه
، عارفاً بطريق الوصول إليه ، والطرق القواطع عنه ، مقدام الهمة ، ثابت الجأش ، لا
يثـنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل ، كثير السكون ، دائم الفكر ، غير مائل مع
لذة المدح ولا ألم الذم ، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته ، لا تستـنفره
المعارضات ، شعاره الصبر ، وراحته التعب " [52]
- محنة الفراغ و الغفلة
و
يجتمع هذا الكلام الحق ليقرر أن محنة الداعية المسلم لا تكمن في معارضة الكفر له ،
ولا في سجنه ، و تعذيبه
و
تجويعه ، بقدر ما تكمن في استرخاء همته و التذاذه بالراحة .
ما
محنة الداعية إلا لهوه وغفلته و جلوسه
فارغاً ، وربما زاد فينفتح له باب من اللغو بعد اللهو .
تـلك
هي المحنة الحقيقية التي تـفتعـلها الجاهلية للدعاة بما تعرض للناس من مغريات و
أسباب لهـو تـلـفـت أنظارهم إليها .
وما
انتصار الداعية إلا في أن تعاف نفسه ما لا يؤثر في تـقدم دعوته .
إن
غفلة الداعية محنة لأنها صرفته عن نصر ممكن يحققه له الجد والعمل الدائب ، وعن أجر
وثواب أخروي ليس له من مقدمة إلا هذا الجد .
وسيظل
اسمنا مكتوباً في سجل الغافلين الفارغين ما دمنا لا نعطي للدعوة إلا فضول أوقاتـنا
، وما دمنا لا نشغفها حباً ولا نتخذها حرفة .
إن
الـداعـية الـمسلم لا يملك نـفـسه حتى يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة ، وإنما هـو -
كما شبهه بعض الأفاضل - ( وقف لله تعالى ) .
تماماً
كنسخة من كتاب نافع حين توقف لله تعالى وتوضع في مسجد من مساجد الله ، فكل داعية
موقوف لله ، في جزء من أجزاء دعوة الله .
و
إن فضول الأوقات ليست قليلة و محدودة فحسب ، و إنما هي أردأ ساعات اليوم ، حيث
يكون فيها الذهن و الجسم متعبين أشد التعب .
و
ما تجاوز الأستاذ المودودي – رحمه الله – أعراف أجيال الدعاة حين صارحنا في تذكرته
القيمة وقال :
"
إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نارا متـقدة تكون في ضرامها على الأقـل مثـل
النار التي تتـقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجره إلى
الطبيب ، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاده ، ولا تـزال
تـقـلـقه و تضطره إلى بذل الجهد والسعي .
إنه
من الواجب أن تـكون في صدوركم عاطفة صادقة تـشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في
سبيل غايتكم و تعمر قلوبكم بالطمأنينة ، وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد والحنيفية
وتركز عليها جهودكم وأفكاركم بحيث أن شؤونكم الشخصية و قضاياكم العائلية إذا
استرعت اهتمامكم فلا تـلتـفتون إليها إلا مكرهين . وعليكم بالسعي أن لا تـنـفـقوا
لمصالحكم وشؤونكم الشخصية إلا أقـل ما يمكن من أوقاتكم و جهودكم ، فتكون معظمها
منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة وهذه العاطفة مالم تكن راسخة في
أذهانكم ، ملتحمة مع أرواحكم و دمائكم ، آخذة عليكم ألبابكم وأفكاركم ، فإنكم لا
تـقـدرون أن تحركوا ساكناً بمجرد أقوالكم " [53]
و
لم يتجاوز حين كرر و قال ثانية أن : " اسمحوا لي أن أقول لكم أنكم إذا خطوتم
على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم
نحو أزواجكم وأبنائكم وآبائكم وأمهاتكم فإنكم لا بد أن تبوءوا
بالفشل الذريع ، بفشل لا تتجرأ بعده أجيالنا
القادمة على أن تتفكر في القيام بحركة مثل هذه إلى مـدة غير وجيزة
من
الزمان ، عليكم أن تستعرضوا قوتـكم القلبية والأخلاقية قبل أن تهموا بالخطوات
الكبيرة "[54]
إن
من يطالب الآن بإلغاء الراحة فإنه إنما يستـند إلى مادة واضحة في قانون
الدعوة والدعاة سنها عمر الفاروق رضي الله
عنه , تـنطق بصراحة أن :
(
الراحة للرجال : غفلة ) [55]
وجددها
إمام المحدثين شعبة بن الحجاج البصري فقال : " لا تـقعدوا فراغاً فإن الموت
يطلبكم " .
ذلك
أن من أراد الراحة و السكون فإن الموت و القبر يزودانه منهما حتى يشبع . وكأننا – والله – قد أسرفنا في الغفـلة ، ولا
بد من عزيمة نفطم بها نفوسنا عن اللهـو .
إننا
حين نثبت جواز التمتع بالمباحات فلكي يعلم من نخاطبه أننا لا ندعو إلى مثـل
الطريقة المبتدعة التي كان عليها بعض الزهاد من الجوع والعري والرهبانية ، وإلا
فلا يزال جواب ابن الجوزي يصلح جواباً لنا حين سأله سائل : " أيجوز أن أفسح
لنـفسي في مباح الملاهي ؟ " فقال :
" عند نفسك من الغفلة ما يكـفيها " [56]
فإن
اعترض معترض : أتيناه بمثل كلام ابن القيم حيث يقول: " لا بد من سِنة الغفـلة
، ورقاد الغـفـلة ، ولكن كن خفيف النوم " [57]
فنحن
لا ننكر ما في المعنى الحرفي لإطلاقات من عاب الراحة من إرهاق ، وإنما نريد – كما
أرادوا – تـقليلها إلى أدنى ما يكفي الجسم ، كل حسب صحته و ظروفه ، خاصة وأن
المؤمن في هذا الزمن أشد حاجة للانتباه و معالجة قلبه وتـفتيشه مما كان عليه
المسلمون في العصور الماضية ، ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل
، ويسوده التواصي بالحق ، والرذائل تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء
و سيوف الأمراء ، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار
مسموعاً مبصراً بواسطة الإذاعات والتـلفزة والصحف ، وجعلت إلقاءات جميع أجناس
الشياطين قريبة من القـلوب ، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا
يشعر بهذا المسموع والمنظور ، فضلاً عن ارتـفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية
التي يعيش فيها , فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على
السلف .
و
ما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي – رحمه الله – لهذه الحقيقة
حين يقول : " إن هذه المدنية السفيهة ، المصيرة للأرض كبلدة واحدة ، يتعارف
أهلها و يتـناجون بالإثم وما لا يعني ، بالجرائد صباحاً و مساء ، غلظ بسببها و
تكاثف بملاهيها حجاب الغفلة ، بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة " .
فكن
خفيف النوم أيها الداعية المسلم لتحصل لك هذه الهمة العظيمة .
و انته من رقدة الغفلة **** فــالـعـمـر
قليـل
و اطّرح سوف وحتى ****
فهما داء دخيل
وعبر
الصالحون عن هذه المعاني أحياناً بلفظ آخر سموه
: حفظ الوقت ، أو مراعاة الوقت .
فيرى
الإمام البنا أن : " من عرف حق الوقت فقد أدرك قيمة الحياة فالوقت هو الحياة
" .
أو
كما قال في خطبة المؤتمر الخامس : " إنما الوقـت هو الحياة " يخالف بذلك
قول الماديين : الوقت من ذهب . وكان – رحمه الله – يحب أن يتجاوز الداعية معرفة حق
وقت يومه إلى التخطيط لصرف وقت غده ، فينوي لكل ساعة نوع خير ، و : " ينام
على أفضل العزائم " [58]
و
ترك الفراغ ، والاستيقاظ من رقدة الغفلة ، معناهما التعب ، ثم التعب ، و استـفـراغ
الوُسع في العمل لله . نطق بذلك الإمام الشافعي ، ونـفى أن تصح مروءة داعية يطلب
الراحة ، فقال :
"
طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات ، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان
" . ولما سئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله ، قال : "
إذا خلع الراحة وأعطى المجهود في الطاعة " [59]
.
فالداعية
الصادق يخلع الراحة ، ويعود لا يعرفها ، وتصبح عنده ذكريات شبابه الأول وصباه فحسب
.
وأما
الإمام أحمد فقد ترجمت سيرته في المحنة هذه الأوصاف عملاً ، حتى قال لابنه :
" يا بني : لقد أعطيت المجهود من نفسي " [60]
يعني
في المحنة , وبذلك حدَّ حدّاً لا يسع الداعية النقصان فيه ولا التخلف عنه ، فعلى
الداعية بذل المجهود من نفسه ، و استـفراغ كل طاقته في خدمة الدعوة .
طريق
رسمه الإمام أحمد لا يسعنا أن نحيد عنه , ومقدار قدره للدعاة ليس لهم أن يقـفوا
دونه نصيباً مفروضاً ، هو : المجهود من النـفس ، وعلامته حين المحن : الصبر على
الأذى حتى الموت . وعلامته في حياتك اليومية : أنك إن جئت إلى فراشك ليلاً لتـنام
وجدت لركبتيك أنيناً ، و في عضلاتك تشنجاً ، لكثرة ما تحركت في نهارك .
وإنما نسميه التعب ، والأنين ، و التشنج ، لغرض
تـفهيم الداعية الجديد ، لأن هذه الاصطلاحات هي لغة أهله و عموم الناس الذين تركهم
من قريب ، و أما في لغة الدعاة فهو محض اللهو الذي تهفو إليه نفوسهم ، و عنهم نقله
البحتري في وصفه لممدوحه حين يقول :
قلب يطل على أفكاره ، ويدٌ **** تمضي الأمور ، ونفس لهوها
التعب [61]
ومن
لا يعلم موازين المؤمنين يظن ذلك حرماناً من لذة ، وخداع ألفاظ ، و غواية اتباع
الشعراء ، ولكن من أوتي علم الكتاب يعرف أن الراحة الحقيقية : راحة الآخرة ، لا
راحة الحياة الدنيا ، ولذلك لما قيل للإمام أحمد : " متى يجد العبد طعم
الراحة ؟ "
قال
: " عند أول قدم يضعها في الجنة " [62]
و
لما تعجب غافل من باذل وقال له : " إلى كم تتعب نفسك ؟ "
كان
جواب الباذل سريعاً حاسماً : " راحتها أريد " [63]
"
فالطالب الصادق في طلبه كلما خـرب شيء من ذاتـه : جعله عمارة لقلبه وروحه . وكلما نـقص شيء من دنياه : جعله زيادة في
آخرتـه . وكلما منع شيئاً من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته . وكلما ناله هم
أو حزن أو غم : جعله في أفراح آخرته
" [64]
و
من لمح فجر الأجر : هان عليه ظلام التكليف ، كما يقول ابن الجوزي .
و
لعمرو الله ما هو بظلام ، ولكنها لغة اضطر لها كما اضطررنا ليـعـقـل مراده
الراقدون .
5- الأخوة شعار دعوتـنا
التسبيح
في دقائق الأسحار الغالية ، والتعامل الأخوي الإيماني : ركيزتان متلازمتان تـقوم
عليهما الجماعة المسلمة ، وعينان نضاختان ، تسكبان خيراً للدعاة لا ينضب . "
إنهما ركيزتان تـقوم عليهما الجماعة المسلمة ، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم ،
فإذا انهارت واحدة منهما لم تـكن هناك جماعة مسلمة ، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه
" [65]
- التـقـوى أولاً
وإنما
التسبيح عنوان الإيمان وإسلام النـفس لله تعالى ، والإيمان عنوان التصور الموزون ،
وضمانة الثبات أمام مخاطر الطريق .
"
ركيزة الإيمان والتـقوى أولاً .. التـقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل ..
التـقوى الدائمة اليقظة التي لا تـغـفـل ولا تـفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ
الكتاب أجله : { يا أيها الذين آمنوا اتـقوا الله حقَّ تُـقاتـه } .. اتـقوا الله
- كما يحق له أن يُتـقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القـلب مجتهداً في بلوغها كما
يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق ، وجدت له أشواق
. وكلما اقترب بتـقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ وإلى مرتبة وراء
ما ارتـقى ، وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام !
{
ولا تموتُن إلا وأنتم مسلمون } والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه ، فمن أراد ألا
يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً . وذكر الإسلام بعد التـقوى يشي
بمعناه الواسع : الاستسلام . الاستسلام لله ، طاعة له ، واتباعاً لمنهجه ،
واحتكاماً إلى كتابه . وهو المعنى الذي تـقرره سورة آل عمران كلها في كل موضع منها
.
هذه
هي الركيزة الأولى التي تـقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق و جودها وتؤدي دروها ،
إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعاً جاهلياً ، ولا يكون هناك منهج الله
تتجمع عليه أمة ، إنما تكون هناك مناهج جاهلية ، ولا تـكون هناك قيادة راشدة في
الأرض للبشرية ، إنما تكون القيادة للجاهلية " [66]
"
لا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف
والمنكر ، فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكـفي ، فقـد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين
وتختـل ، ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير والشر ، وللفضيلة والرذيلة ،
وللمعروف والمنكر ، يستـند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا
ما يحققه الإيمان بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه ، وللإنسان وغاية وجوده
ومركزه الحقيقي في هذا الكون .. ومن هذا التصور العام تـنبثق القواعد الأخلاقية ،
ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد ، ومن سلطان
شريعته في المجتمع تـقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك . ثم لا بد من الإيمان
أيضاً ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر ، أن يمضوا
في هذا الطريق الشاق ، و يحتملوا تكاليفه ، وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه
وجبروته ، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ،
وكلل العزائم ، وثـقـل المطامع ... و زادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان ،
وسندهم هو الله .. وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد ، و كل عدة سوى عدة الايمان تـفل
، و كل سند غير سند الله ينهار " [67]
و
يحدثنا إقبال عما فعله هذا الإيمان من توحيد التصور الذي انتبه إليه سيد قطب فيقول
:
وُحِّد الرئي لنا و الفكرة **** كسهَام جمعتها جعبة
نحن فكر و خيال واحد **** ورجاء و مآل واحد [68]
فهذا
أقصى ما يكون من الاتحاد ، بأدنى ما يكون من الوسائل ، فالرؤية واحدة ، والفكر
والخيال واحد ، والرجاء واحد ، والمصير واحد ، كل ذلك يعطيه الإيمان ، وما أسهل
تـناوش من ملك القلب لهذا الإيمان البسيط ، ذي الأعطيات الثمينة .
- و نـثـنـي بالأخوة ..
" أما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة .. الأخوة في الله
على منهج الله ، لتحقيق منهج الله : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تـفرقوا
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ,
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم
تهتدون } ..
فهي
أخوة إذن تـنبثق من التـقوى والإسلام .. من الركيزة الأولى .. أساسها الاعتصام
بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، وعلى أي هدف
آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة !
{
واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتنّ
الله بها على الجماعة المسلمة الأولى ، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده
دائماً " [69]
"
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين .. على
الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله سبحانه , وتمثل صفاته في
الضمائر ، و تـقواه و مراقبته ، و اليقظة و الحساسية إلى حد غير معهود إلا في
الندرة من الأحوال . وعلى الحب : الحب الفياض الرائق . والود : الود العذب الجميل
. و التكافل : التكافل الجاد العميق .. و بلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغاً ،
لولا أنه وقع ، لعد من أحلام الحالمين ! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة
من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة ! وهي قصة وقعت في
هذه الأرض ، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد و الجنان !
وعلى
مثـل ذلك الإيمان ، ومثـل هذه الأخوة ، يـقوم منهج الله في الأرض في كل زمان ) [70]
ومن
هنا كانت هذه العودة إلى محاولة تأكيد معنى الأخوة كجزء من إحياء فـقه الدعوة ،
فإن الأخوة شرعية دعوتـنا وشعارها واسمها ، وميثاقها الذي واثـقتـنا به ، وكتابها
الذي كتبته على نفسها ، وما زالت تأتي دعوتـنا المباركة بصائر جديدة من تجاربها
المتكررة تسرع بها إلى ابتغاء كل وسيلة إلى هذه الفضائل وتجميع أنصارها إلى الله
على التحابب ، والتكافل ، و التسامح ، و مكملات هذه الرواسي الشامخات ، وكمالها أن
ترى من بعد وحدة الرؤية و الفكر و الخيال و الرجاء و المصير : وحدة القلب و الروح ، بل و وحدة اللفظ
أيضاً ، فلا تكون هناك إلا صيحات واحدة . بحروف متـقاربة ، تعبر عن مفهوم واحد ،
كما أراد إقبال حين يقول :
نحن من نعمائه حلف إخاء **** قلبنا و الروح و اللفظ سواء [71]
فلم
يقنع بوحدة القـلب ، حتى توحدت الألفاظ .
- عـقـد الأخـوة
و
يظل هذا الاتحاد يتـنامى حتى يكون عقداً واجب الوفاء ، فقد تكلم ابن تيمية عن (
عـقـد الأخوة ) هذا وبين أن الحقوق التي ينشؤها إذا كانت من جنس ما أقره النبي صلى
الله عليه وسلم في أحاديثه لكل مؤمن على المؤمنين فإنما هي : " حقوق واجبة
بنفس الإيمان ، والتـزامها بمنزلة التـزام الصلاة والزكاة والصيام والحج ، والمعاهدة
عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله ، وهذه ثابته لكل مؤمن على كل مؤمن وإن
لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة " [72]
فيأتي
العقد يؤكدها إذن ، ولم يحصل خلاف إلا في التوارث عند عدم وجود القرابة كما كان
الأنصار و المهاجرون يتوارثون بالتآخي الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم بينهم
أول مقدمه المدينة ، فقد قال أكثر الفقهاء بنسخ ذلك ، وأجازه أبو حنيفة و أحمد بن
حنبل في إحدى الروايتين عنه .
إن
هذا العقد الأخوي يزيد الواجب الإيماني ثبوتاً ، وما نراه إلا كبيعة سلمة بن
الأكوع الثانية رضي الله عنه تؤكد بيعته الأولى حين كانتا في ساعة واحدة يوم
الحديبية تحت الشجرة ، كما جاء عنه في صحيح البخاري في قوله : ( بايعنا النبي صلى
الله عليه وسلم تحت الشجرة ، فقال لي : يا سلمة : ألا تبايع ؟ قلت : يا رسول الله
قد بايعت في الأول . قال : وفي الثاني ) [73]
، فكذلك المسلمون : أوجب الإسلام على بعضهم البعض حقوقاً ، ويتبايعون بعقد أخوة في
الثاني ، زيادة خير ، وابتغاء توثق ، وعنصر تذكير ، لتـنشأ الجماعة المؤتـلفة
المتماسكة المستحكمة التي وصفها إقبال – رحمه الله – في رموزه حين يقول :
كل فرد بأخيه ائتلفا **** مثل در في سموط ألفا
لفهم في عيشهم معترك **** كل فرد بأخيه
ممسك
من جذاب تتوالى الأنجم **** كوكب من كوكب مستحكم [74]
وهكذا
، فإنه ليس من عمل للداعية المسلم اليوم أثمن من غدوة يهب فيها لدعوته – بفضل الله
– ناشئاً يغمس نفسه فيؤزره ، فيستغلظ ، فيستوي على عـقـد الأخوة ، يعجب الدعاة ، و
يغيظ به الكفار .
- مـيـزان التـصاحـب
وهكذا
تكون الأخوة بين الدعاة هي الركن المهم في تربيتـنا بعد الصلاة والتسبيح ، وما من
جزء من أجزاء الحركة الإسلامية يقذف بنـفسه في ميدان العمل العام قبل إحلال معاني
الأخوة الإيمانية في أعضائه إلا ذاق وبال تساهله وتـفريطه ، ولا مناص من أن تَدرج
بدايته على طرق الإيمان واستغلال دقائق الليل الغالية ، ويكون فيه ( أدب الأخوة )
مترجماً في تـناصح وتكافل وتحابب يجمع القلوب ويعلمهاالتحالم - إن لم يكن الحلم -
عند إبطاء المقصر و تجاوز الملحاح ، مثلما يعلمها المكافأة و الوفاء و الشكر عند
إسراع المبادر و عدل خفيض الجناح .
لقد
أحب الإمام البنا هذا الأدب للدعاة ، ووضع له منهجاً بحيث " يرفع أخوتهم من
مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات " [75]
، ورأى رحمه الله من تآخي الرعيل الأول ما أقـر عينه حياً ، وبرهان وفاء محبيه من
بعده أن يكونوا دوماً عند محاسن هذا الأدب ، و أن يفيئوا إليه عند أول انتباهه إذا
أنستهم الغفلات .
إنها
نعمة الأخوة .
يجعلها
عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أثمن منحة ربانية للعبد من بعد نعمة الإسلام فيقول
: ( ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح ، فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به ) .
و
يسميها التابعي مالك بن دينار : روح الدنيا ، فيقول : ( لم يبق من روح الدنيا إلا
ثلاثة : لقاء الإخوان ، و التهجد بالقرآن ، وبيت خال يذكر الله فيه ) . و يحكر لها
الشاعر صفة الذخيرة ، فيقول :
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة **** و لكن
اخوان الثقات الذخائر
و
لهذا كثرت توصية السلف باتـقان انتـقاء الأخ الصاحب ، لتصاب الذخيرة الحقة ،
والروح الحقة ، فكان من وصايا الحسن البصري سيد التابعين أن : ( إن لك من خليلك
نصيباً ، وأن لك نصيباً من ذكر من أحببت ، فتـنـقوا الاخوان و الأصحاب والمجالس ) [76]
فأما
أولاً : فقد عمموا صفة الخيرية بإطلاق تحكم الانتـقاء ، وعبروا عن ذلك بقولهم :
أنت في الناس تـقاس **** بالذي اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو **** و تـنل ذكراً جميلاً [77]
ثم
خصصوا ففسروا الخير بالتقوى ، وقالوا :
نافس ، إذا نافست في حكمة **** آخ ، إذا
آخيت ، أهل التـقى
ما
خير من لا يرتجي نفعه **** يوماً ، ولا يؤمن منه الأذى [78]
ثم
زادوا و ذهبوا أبعد ، فعددوا صفاتهم ، يعينونك على دقة الاختيار .
v
أعلى صفاتهم : طيبة القول ، ذكرها عمر
رضي الله عنه فقال : " لولا أن أسير في سبيل الله ، أو أضع جبيني لله في
التراب ، أو أجالس قوماً يلتـقطون طيب القول كما يلتـقط طيب الثمر ، لأحببت أن
أكون لحقت بالله " [79]
v
و من صفاتهم : أن أحدهم : ( يرفع عنك
ثـقل التكلف ، و تسقط بينك و بينه مؤونة التحفظ . و كان جعفر بن محمد الصادق - رضي
الله عنهما - يقول : أثـقل اخواني علي : من يتكلف لي وأتحفظ منه ، و أخفهم على
قلبي من أكون معه كما أكون وحدي ) [80]
v
و من صفاتهم : ترك حضيض الدينار والدرهم
، و السمو إلى العلا ، وضربوا لذلك الإمام أحمد بن حنبل في انتـقائه الأصحاب مثلاً
، وذلك حين يقول الذي يطريه :
و يحسن في ذات الإله إذا رأى ****
مضيماً لأهل الحق لا يسأم البلا
و أخوانه الأدنون كل موفق **** بصير
بأمر الله يسمو إلى العلا [81]
v
و من صفاتهم : مذاكرة الآخرة ، كما قال
الحسن البصري : " إخواننا أحب إلينا من أهلنا و أولادنا ، لأن أهلنا يذكروننا
بالدنيا و إخواننا يذكروننا بالآخرة " [82]
v
و من صفاتهم الإيثار ، وهو أحد أركان
بيعة الشاعر صالح حياوي لهم حين يقول :
أبداً أظل مع التـقاة ، مع الدعاة
العاملين
الناشرين لواء أحمد عالياً في العالمين
المنصفين المؤثرين على النفوس الآخرين
معهم أظل ، مع التـقاة ، مع الدعاة
المسلمين [83]
v
و من صفاتهم : بذل النصح ، فأحدهم : (
صالح يعاونـك في دين الله ، و ينصحك في الله ) .
·
آفـات الـمـجـالس :
وهذا
الانغماس يؤدي إلى الاجتماع والمجالسة بالتالي ، ولذلك وجب التعرف على سيماء
المجالسة النافعة ، و الابتعاد عن بعض المعايب التي تـلحقها .
ويجمع
ذلك : تحري النفع في الدين فإنها الكلمة الجامعة المانعة ، والمادة الموجزة في
قانون التآخي ، يضعها زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم ، فيقول :
" إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه " [84]
فشأن
كل داعية ناشئ أن يرتاد لنـفسه المجالس التي يزيد فيها إيمانه وعلمه ، وأن يقصد
المجالس التي تـنفع دينه ، ولا يعرف مجالس اللغـو و اللهـو و قتـل الـفراغ .
وشرح
ذلك إقبال بشطر حاسم ، يريد لنا أن لا نطيل القول بعده ، فقال يدعو الله عز و جل :
هب نجيّا يا ولي النعمةِ **** محرماً يدرك ما في فطرتي
هب نجيا لقِنا ذا جنة **** ليس بالدنيا له من صلة[85]
فهذا
جماع القول :
إن
صاحب الداعية المسلم : داعية آخر ليس بالدنيا له من صلة .
صلته
بالآخرة ، و شوقه إلى الجنة .
بينه
و بين الدنيا انقطاع و جفاء .
إن
تحريت عنه : وجدته .
إنه
هو صاحبك .
آخه
، وأحببه ، واصحبه ، وأعطه مثـل الذي يعطيك ، وإلا فإنك أنت العاجز ، فإنه كان
يقال :
"
أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان , و أعجز منه من ضيع من ظفر بهم ) .
فاطلب
الإخوان ، نرفع عنك صفة العجز . ولابن القيم كلام موجز شامل في ذلك ، يدل على
تجربة داعية من أهل الوعي ، شخص فيه أخطار المجالس فقال : " الاجتماع
بالاخوان قسمان :
أحدهما
: اجتماع على مؤانسة الطبع و شغل الوقت ، فهذا مضرته أرجح من منفعته ، و أقل ما
فيه أنه يفسد القـلب و يضيع الوقت .
الثاني
: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة و التواصي بالحق و التواصي بالصبر ،
فهذا من أعظم الغنيمة و أنفعها ، و لكن فيه ثلاث آفات :
أحدها
: تـزين بعضهم لبعض .
الثانية
: الكلام و الخلطة أكثر من الحاجة .
الثالثة
: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن
المقصود " [86]
والذي
يؤسف له أن مخاوف ابن القيم هذه تحولت إلى واقع تحياه بعض مجالس الدعاة الحالية ،
ووجد التـزين وسيلة ليظهر فينا ، وزادت الخلطة بين الدعاة عن مقدارها الذي تحتاجه
الدعوة وتحولت إلى شبه بطالة وشهوة تلهي عن مقصود تجمعنا في متابعة العمل مع
الناشئة والجدد ، وفي الانطلاق خلال المجتمع العام لتبليغه كلمة الإسلام .
·
و المرء يعجب من صغيرة غيرة !
و
لو أن عادتَي التـزين و البطالة تـقفان عند حدهما لعولج أمرهما بمجرد استـنهاض وتذكير
خفيفين ، ولكن هاتين الآفتين تتعديان في آثارهما ، ويتولد عن اجتماعهما خلق الضيق
عن العـفـو ، بينما يشير استـقـراء الحياة الجماعية إلى ضرورة خلق التسامح
والمرونة لمن يحياها .
وقد
يظن البعض أن مثـل هذا الكلام أقرب إلى مواعظ العامة منه إلى بحوث فقه الدعوة ،
ولكن من يعاني إدارة العمل اليومي للدعوة الإسلامية يدرك ضرورته ، و يعرف كم من
الترف ، بل و الخطر ، يكمن فيمن يتعالى عن مثل هذه المواعظ ليهمس بمعاني فنون
التخطيط والعمل السياسي في آذان من تضيق صدور بعضهم عن معاني التسامح و العفو عن
صاحب الزلة و الخطأ ، ولا بد من اقتران التوعية العملية للداعية المسلم بالتربية
الخلقية الإيمانية ، ولا بد من سيرهما معاً .
وهذا
هو مصدر إصرار الأقدمين و المعاصرين على التوصية بسعة الصدر ، و التحابب الأخوي .
يقدمهم
الفضل بن عياض فيقول : " من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ " فضع في حسابك
عندما تعقد ( عـقـد الأخوة ) أن من تتعاقد معه غير معصوم .
ويأخذ
الشعراء دورهم في التوصية ، فيقول مشرقيهم :
لا لوم في خطأ ولا تثريبا
و
يقول مغربيهم :
سامح أخاك إذا أتاك بِزلَّة
ويقول
ثالثهم :
إذا ما بدت من صاحب لك زلة **** فكن أنت محتالاً لزلتـه عذراً
أحب الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه **** كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسط أذى **** ولا مانع خيراً ، ولا قائل
هجرا
ولكن
كم أرتـنا الأيام من قال هجرا ، وتراه إذا ما دعوته إلى اللين يعبس ويبسر ، و يذهب
مغاضباً ، كأنما تدعوه إلى شيء نكر ، و إنما هي سذاجة نـفسه نريد أن نقيه إياها ،
وإنما هو تربص العدو نريد أن نبعده عنه ، بما عرفنا عن عدونا من قعوده للدعاة صراط
أخوتهم المستـقيم .
وهاؤم
تـفحصوا تاريخنا ، كم من منتصر لنفسه استعجل فخاصم ، فما استطاع من قيام وما كان
منتصراً ، و لفتـه دوامة العيش المعقد فضاع في خِضَمّها منسياً ، يأكل و يشرب ، و
ليس له من بعد ذلك نوع وجود .
إن
جموع هؤلاء المغاضبين إنما تأخرت و ضاعت في تيار الدنيويات بما كانت بموازين
الأخوة تخل ، ولو أنهم استـقاموا على الطريقة الأولى وراغوا إلى فقه الأخوة
الموروث ، لما مسّهم اللغوب و الضياع .
إن
الفقه الذي ورثـناه عن التابعي بكر بن عبد الله المزني ينص على إنك : " إذا
وجدت من أخوانك جفاء فذلك لذنب أحدثـتَه ، فتب إلى الله تعالى ، و إذا وجدت منهم
زيادة محبة فذلك لطاعة أحدثـتها فاشكر الله تعالى ) .
فاتهم
نفسك إذا عوملت بجفاء أو رأيت نوع تـقصير في حقـك الذي تظنه قبل أن تبادر بالهجوم
.
إن
هذه النصوص القديمة من فقه الأخوة الإيمانية ، يصوغها عبد الوهاب عزام في العصر
الحديث في بيتين جامعين من مثانيه و يقول
:
في
فؤادي بحران : ملحٌ وعذب **** وبه صرصر وريح رخاء
فهو
مُرّ على البغاة عصوف **** وهو عذب لصاحبي و صفاء [87]
فأنت
مطالب أيها الداعية المسلم أن تملأ قلبك من مشاعر الأخوة في الله لإخوان العقيدة
بقدر ما يجب أن تضع فيه من مقت أهل الباطل البغاة .
سادساً : أشجار الإيمان
وحدة
العبودية ، و تكاملها ، في أجزاء هذا الكون ، لله تعالى الذي خـلقه : حقيقة يراها
المتـفكر ، إذا استطاع أن يفلت من الصخب الملهي و يتأمل في هدوء ورَوية .
منها
: عبودية لا تشوبها الوساوس ، لبساط الأرض جميعه ، حشائشه و الباسقات ، نبهك
القرآن لها ، في قوله عزّ وجلّ : { والنجم و الشجر يسجدان } .
قال
الطبري : " يعني بالنجم : ما نَجَم من الأرض من نبت ، وبالشجر : ما استـقـل
على ساق " [88]
فهو
منظر سجود دائم يراه المؤمن ليكون له تذكرة حين تثـقله الغفلة ، يديم له سجوداً
قلبياً ، آيته الرضا عن الله ، والتسليم لحكم حلاله وحرامه ، به يستكمل سجود
جبهتـه مغزاه .
ومتى
ذاق المؤمن ، بالخلوات المسترسلة ، لذة مراقبة هذا السجود الأخضر ، المتوشح بألوان
الزهر ، وأذن لقلبه أن يبالغ في الهبوط مقلداً ، حتى يلامس أوطأ الإخبات : نادى
غيره للمشاركة ، وعرض عليه الرفقة ، منخلعاً عن حسد واحتكار .
وتلك
هي دعوة إقبال ، لما ظفر بسر السياحة الإيمانية الصامتة ، في البراري الناطقة ،
ونبهك إلى إنصات واجب ، لتسبيح دائب ، و أوصاك أن :
دع الدور و اطلب فسيح البراري **** و انظر إلى صفحات الجمال
على حافة الماء دون ملال **** تأمل ترقق ماء زلال
وحدق إلى نرجس ذي دلال **** وقبِّل عيوناً له كاللآلي [89]
و
كان عبد الوهاب عزام أول مجيب له ، وطفق يستغرق في التأمل ، فرآه جاهل بما هنالك
فأنكر عليه ، فقال :
لست أخلو لغفلة و سكون **** وفرار من الورى و ارتياح
إنما خلوتي لفكر و ذكر **** فهي زادي وعُدّتي لكفاحي
و
ما زاد بهذا على أن جدّد مذهباً سالفاً ، و عرفاً عند أول المسلمين ، في استلال
ساعة من بين حركاتهم في التعلم و التعليم ، والأمر و النهي ، و ضرورات المعيشة ،
يميلون فيها إلى التـفرد خارجاً ، والركون إلى أرباض مدنهم ، و الجلوس بين الزروع
، يرجون لأنفسهم بصائر و تذكرة .
وروى
ابن القيم أن شيخه ابن تيميه ، رحمهما الله ، كان يتركهم غادياً بعد الفجر مراراً
، فراقبه ، فوجده يعتـزل في غوطة دمشق و حقولها ، حتى غدت عنده عادة .
وما
ذاك على أسلوب القرآن بغريب ، ولا على رموز النص الشريف المأثور و تشبيهاته ، بل
هو ارتباط واضح خلالهما بين الخضرة و خصال الفطرة ، ترك طابعه على طرائق المؤمنين
في التعبير و التمثيل ، في نحو على منحاهما ، يدلك على قـلوب فقهت المناسبة ،
واستوعبت الإشارة ، وشهدت الرابط الجامع في لقيا الشجر و معاني الإيمان إنها غاية
من أشجار الإيمان ، فيها أيك ملتف متشابك ، تجعل سيرك في ظل وارف ، و مداعبة من
زكي العبيق .
·
تفجؤك فيها شجرة التوحيد .
وهي
شجرة غرسها القرآن ، تستـلقي تحت أغصانها حين تـقرأ قول الله تبارك وتعالى :
{
ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ،
تُؤتي أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربها ، و يضرِب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون }
قال
ابن القيم : " فإنه سبحانه شبّه شجرة التوحيد في القـلب بالشجرة الطيبة
الثابتة الأصل ، الباسقة الفرع في السماء علواً ، التي لا تـزال تؤتي ثمرتها كل
حين . و إذا تأملت هذا التشبيه رأيتـه مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في
القلب ، التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء . ولا تـزال هذه الشجرة
تثمر الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء . ولا تـزال هذه الشجرة تثمر الأعمال
الصالحة كل وقت ، بحسب ثباتها في القلب ، ومحبة القـلب لها ، وإخلاصه فيها ،
ومعرفته بحقيقتها ، و قيامه بحقوقها ، ومراعاتها حقّ رعايتها " [90]
و
من السلف من قال : إن الشجرة الطيبة هي النخلة ، ويدل عليه حديث ابن عمر في الصحيح
، وقال الربيع بن أنس : ذلك المؤمن ، أصل عمله ثابت في الأرض ، و ذكره في السماء .
قال
ابن القيم :
"
ولا اختلاف بين القـولين ، و المقصود بالمثل : المؤمن ، و النخلة مشبهة به ، وهو مشبه
بها " [91]
v
و من مكانك تحتها تشم عبير ورود بقربها ، من
شجرة تسمى شجرة الطاعة ، شهدت منحة الرضوان ، لما أسبغت ، يوم نزلت : { لقد رضي
الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة
عليهم ، وأثابهم فتحاً قريباً }
و يفتأ المستظل بظلها
اليوم ساكن الفؤاد ، غير مضطرب لحرمان وفـوات ، ينتظر فتحاً لحركة الإسلام تـندكّ
به صروح الضلال ، قد قدّم له التبايع على الموت ثمناً .
v
فإن اختار الله لك المحنة سبيلاً لهذه
المنحة ، وحَزَبَك الأمر : لجأت إلى شجرة الترحاب ، تطلب الطمأنينة عندها ، هازاً
جذعها ، لتغدق عليك من بركتها ، وتـفعل ما فعلت مريم عليها السلام لما ضاقت عليها
الأرض ، فجاءها نداء: { و هزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جَنياً فكلي و
اشربي و قرّي عينا } .
فتأكل رطيبات وتـقنع
بها ، عازفاً عن بطر المترفين ، وتغرف من ثَمّ من سَرِي بين يديك يجري ، مستعلياً
بعزة دونك مدارجها ، ترقى إليها و تَسري .
v
و للنبي صلى الله عليه وسلم غِراس في
هذه الغابة ، كما أن الحكمة أشهدت الشجر مواقف من سيرته الشريفة ، إيماء إلى هذا
الارتباط ، ربما ، و إثارة لتطلع الغافل .
منها : شجرة الوفاء ، عنوان امتـزاج الأرواح
الذاكرة ، تـنطق بالشكر ، و تحفظ الفضل لأهله ، و تعلن عِرفان الجميل .
وهي نخلة ، تَنَهَّدتْ عند الفِراق .
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه :
( كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله
عليه وسلم ، فلما وُضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العِشار ، حتى نزل النبي
صلى الله عليه وسلم ، فوضع يده عليه ) [92]
أي كأصوات النياق التي أثـقلها حمل
بطنها وقَرُب مخاضها . وتـلك من معجزاته ، عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام .
جذع أنيلَ الشرف ، فوفى ، واجتمع له
الحَنين ، فاستبدَّ به استبداداً ، فَرَّق منه الأنين .
وما من أحد إلا وفي بيته ديوان حديث ،
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم واقف عنده يُفقِّه أمرَ دينه ، و يُلقنه شرائع
الأسلام ، و الوفاء يليق لمثلنا ، نتعلمه من الجذع ، و نترجمه صُوراً من الاتّباع
و الاقـتـفاء .
v
و شجرة خامسة تسمى
شجرة الثبات ، تلوذ بها يوم تتوزع الناس الأهواء ، فتطلب النجاة معتـزلاً الفِرَق
كلها ، ( ولو أن تعضّ بأصل شجرة ) [93]
وتصون لسانك إلا عن قولك مع عبد الله بن
أبي مُليكة : " اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نُفتن " [94]
فلأمر ما مما نقول كان هذا الاعتصام بالشجر ، في إلحاح يزيد معه المعتصم شدّ نواجذه
ضاغطاً ، لو تخيّلته ، لتردّد قلبك يهتـز في قلق ، بين رهبة من استرخاء يعتري
فيَجرِف ، و أمل في إتمام يُنجي .
إلا أن رحيق هذه الشجرة يرويك إذ الناس
تلهث عطشاً ، ويبل حلقك بارداً ، فتضاعف العضّ مُبالغاً ، كأنك تمص الثبات راضعاً
.
v
و سادسة تُعرف بشجرة الأنس ، تُصاحبك
عند الوحشة ، و تخفف رطوبتها جفاف هـفواتـك . غَرَسها النبي صلى الله عليه وسلم
لما مَرَّ بقبرين يُعذبان ، فكان أن : ( أخذ جريدة رطبة ، فشقها بنصفين ، ثم غرز
في كل قبر واحدة ، فقالوا : يارسول الله : لِمَ صنعت هذا ؟ فقال : لعـله يخفـف
عنهما مالم يَيْبسا ) [95]
ففهم بُريدة الأسلمي – رضي الله عنه –
من ذلك أنها سُنة ، فأوصى أن يُجعل في قبره جريدان ، فما زال الناس يُقلدونه في
ذلك .
وقد لا نخلوا من لمم يكدر صفـو العمل ،
أو من تَتَبع بفـضول لما في يد أهل الدنيا من أموال الاستـدراج ، يكون معه الأرق
المتـلف ، واضطراب النوم ، فيضعف الاستعداد للفجر الآتي ، ولعل سويعة لك تحت سعف
النخيل تخفف لهـفـك .
v
ثم شجرة المفاصلة ، شهدت كيف يُتمم
استـقلال الوسيلة عند المسلم استـقلال الهدف ، و ذلك لما تبع مشرك جيش المهاجرين
والأنصار حين سيره نحو بدر ، يريد أن يقاتل معهم ، حمية و نصرة لقومه ، فلما وصلوا
شجرة ضخمة كانت مَعْلماً في الطريق ، ذكرتها عائشة رضي الله عنها : لحق بهم ،
فالتـفـت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( ارجع ، فلن أستعين بمشرك ) [96]
فمضى ذلك أصلاً ، لم يطرأ عليه
الاستـثـناء إلا في حوادث ضيقة .
و تحاصر جبهات الأحزاب اليوم دعوة الحق
، تبثّ إرجافها ، متهمة إياها بتخلف عن ركب سياسي مجتمع ، فيقصد الدعاة الأشجار
المعالم الضخام ، فتشهد بانتـفاء اللقاء ، و عيب النزول بعد الاستعلاء .
v
ولما فَقه الناس هذه الأمثال : تتابعوا في سباق
يغرسون ، فكانت شجرة ثامنة عرفت بينهم أنها شجرة الاغتـفار .
وهي شجرة عنب كثيرة الثمر ، فكان غارسها
إذا مَرَّ به صديق له : اقتطف عنقـوداً ودعاه ، فيأكله ، وينصرف شاكراً .
فلما كان اليوم العاشر : قالت امرأة
صاحب الشجرة لزوجها : ماهذا من أدب الضيافة ، ولكن أرى إن دعوت أخاك ، فأكل النصف
، مددت يدك معه مشاركاً ، إيناساً له ، و تبسطاً و إكراماً .
فقال : لأفعلن ذلك غذاً .
فلما كان الغد ، و انتصف الضيف في أكله
: مدّ الرجل يده و تـناول حَبّة ، فوجدها حامضة لا تساغ ، وتـفلها ، و قطّب حاجبية ، و أبدى عَجَبه من
صبر ضيفه على أكل أمثالها .
قال أبو حيان التوحيدي : فقال الضيف :
قد أكلت من يدك ، من قَبلُ على مر الأيام حُلواً كثيراً ، و لم أحب أن أريك من
نفسي كراهة لهذا تشوب في نفسك عطاءك السالف [97].
و ما هذه من قصص الأغاليط ، ولكنه
مَثـَل ضرب لك أيها الأخ الداعية فاستمع له ، ومجاز تدلف منه إلى العدل مفتوح
أمامك .
فليس فيمن حولك من انبغت له العصمة و
استـقام له الصواب ، فإن أخطأ معك أخ لك فلا تجرمنـَّك كبوته على الهجران ، و
التأفف ، و الضجر و الانتقاص منه ، بل ولا على العتاب , إنما تـتصبر ، و تكظم و
تعفو في سرك مستحضراً جمال سابقاته ، و جياد أفعاله ، و حلو مكرماته ، إذ لعله قد
أعانك على توبة أو ظاهرك عند تعلمك رديفاً و رفيقاً و سميراً ، أو علّمك باباً مما
علّمه الله و طريفه .
v
فإن استـفدت و نشرت الانصاف ، فقد أذن
لك في أن تستـلقي تحت شجرة هيفاء ، كثيرة الثمار و الورود ، يخلب نظر الرائي
جمالها ، و تُنطق المستمتع حمداً لرفيع ذوق غارسها .
اسمها : شجرة الزهد .
وهي شجرة قلبية فريدة ، و لم يَسبق صاحبها أحد إلى
استـنبات مِثلها ، فجاءت بدعة ، و وصفها فقال :
غَرسَ الزهدُ بقلبي شجره **** بعد أن
نقّى بجهدٍ حَجَرَه
وسَقاها إثرَ ما أَودَعها **** كَبِدَ
الأرضِ بدمعٍ فَجَّرّه
ومتى أبصرَ طيراً مُفسداً **** حائماً
حول حِماها زَجَرَه
نمتُ في ظلٍ ظليلٍ تحتَها **** رَوّح
القلبُ و نَحى ضَجَره
تم بايعت إلهي وكذا **** بيعة الرضوان
تحت الشجرة
فانظروا أطوار رعايته لها ، وعنايته بها
، وكيف بدأ بتطهير قلبه مما هنالك من
أحجار الحسد و الرياء و التكبر و سوء الظن ، و كيف سقاها بدموع الخشية في الأثلاث
الأخيرة ، وكيف زجر شياطين الإنس و الجن لما حامت حول بذرتها تبغي التـقاطها ،
وقلِّده ، و أفعل فعله : تورق لك أختها ، و تتفتّح لك منها الزهور بألوان و عطور ،
فتـنام تحتها كما نام ، تستشعر شعور أهل بيعة الرضوان ، و كأنك فيهم و معهم ،
تغمرك نشوة البيعة على الموت في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام .
v
و وعى الإمام حسن البنا – رحمه الله – فَن زراعة
أشجار الإيمان ، فغرس لك الشجرة العاشرة ، وهي شجرة الحِلم ، و صفها مخاطباً
الدعاة فقال : " كونوا كالشجر، يرميه الناس بالحجر ، و يرميهم بالثمر "
. ولقد أجاد وأفاد ، فإن في أكثر الناس سرعة جنوح إلى الجهل ، يميلهم إلى تكذيب
دعاة الإسلام و إيذائهم بالباطل . ولو جهل الداعية مثـل جهل الجاهلين ، وقابل
الإساءة بإساءة ، لعـفـت رسوم الإحسان واندثرت ، و لكنه الصدر الواسع ، والاحتساب
، والاستغفار لقومه الذين لا يعلمون .
أما بعد :
فليس الإمام البنا بآخر غارس في غابة
الإيمان ، و إنما وضعنا في يدك الفأس ، و أعطيناك البذر ، فأبذر : تجد الثمر و
فيراً ، مباركاً .
فاخرج و تجوّل متأملاً : تجد أخلاق
الإيمان قد مازجت الخضرة ، و إن لكل شجرة تعبيراً عن شيء من محاسن الخصال يمازج
سجودها ، و يقترن بمظهر عبوديتها لله خالقها .
ومن ها هنا كانت سويعات الخلوة بين
الشجر سبب ذكرى للغافلين ، و سبيل إنابة .
و مما ينبيك عن صدق ظننا الحَسَن هذا
بالأشجار أن الله سبحانه ضرب مثل الكلمة الخبيثة المنافية للتوحيد كشجرة خبيثة ،
لكنها ليست قائمة ، بل اجتُثتْ من فوق الأرض ما لها من قرار .
فليس من شجر واقف إلا و يعظك بكلمة من
الإيمان .
7- حصار الأمل
هذه الحياة ، بجوانبها العديدة ، و
تبدلات المجتمعات التي تحياها ، قد لايفهمها جيل المسلمين اليوم من دون الرجوع إلى
نظرة واقعية لها ، متسمة بالبساطة ، مستقرئة للمحسوس المشاهَد منها .
ولا ريب في أن تجاوز مجرد الاستـقراء ،
وفهم الأمور معلَّلة مسبَّبة ، هو الوضع الأمثل ، المؤدي إلى الإيمان الأتم الأوفر
، وهو لما يُظن أنه من ظواهر التـناقض أوجب ، و لذلك جاءت عقيدة الإسلام تُحلل
وتُعلـل ، ليحيا مَن حَيَّ عن بينة . ولذلك أيضاً حاولت الفلسفات أن تـفهم محركات
الحياة ، فقاربت كاقتراب سقراط من عقيدة التوحيد ، أو أبعدت ، كبعد جمهور
المحاولين .
و بتـفسيرات مَن شَرَحَ الكمال العقيدي
الإسلامي ، أو من خلال محاوارات الفلاسفة في محاولاتهم الوصول إلى المثالية اتسع
القول في القدر ، والجبر والاختيار ، وسر تردد النفس بين التـقوى و الفجور ، و
حكمة خلق الشيطان و القائه للنفوس حتى لتختار الضرر الواضح و تأتي بما لا يأتلف مع
الفطرة ، و غَلَبَة أهل الشر أحياناً مع كثرة إفسادهم وإرهاقهم للناس ، وكثرة محن
أهل الخير وصدود الناس عنهم مع عظيم بذلهم ونفعهم للناس ، و أمثال هذا . و لكن
حياة اليوم اكتـنفها التعقيد المادي من كل أركانها ، وتركت كثيراً من المسلمين -
كشأن أغلب الناس - في زحمة من المتطلبات والحوائج تسلبهم التـفرغ لتأمل ساكن
يحللون فيه و يعلـلون .
و لذلك لم يعد هذا النظر التحليلي بممكن
للجميع ، فضلاً عن أن يكون مفهوماً للجميع ، مع أن المسلم مطالب و مكلف - في الوقت
نفسه - بأداء الواجب المفروض عليه في التأثير الخَّير في الحياة ، بالأمر بالمعروف
، و الدعوة إليه ، والنهي عن المنكر ، ملزم به إلزاماً ، مُضيّق عليه في الاعتذار
إزاءه .
ومن هنا تـفرض سرعة صراعنا الحاضر مع
أشكال الكفر الجديدة أن نلجأ ، بسرعة توازيها ، إلى بساطة النظرات الواقعية ،
لإسعاف المسلم القائم على ثغور هذا الصراع بقناعة و شجاعة تدعانه يلج دروب البذل
التي تـفرضها واجبا ت رقابته على العالمين ، أمماً و أفراداً ، وأمره ونهيه ،
مقوماً لهم ومُعدلاً .
ولن تجد الحركة الإسلامية ثنية بعيدة عن
البدعة تطل بدعاتها من فوقها على منظر بسيط لحقيقة الحياة ، شامل في رؤيته ، كما
تكون إطلالتها على حقيقة الموت . هذه الحقيقة المستغنية عن الدليل والتحليل ،
والتي تؤذن فيهم وفي الناس كل صباح ومساء .
·
عظمة المشهود : دليل الغيب
و ذاك من كمال عقيدة الإسلام وتمام فن المؤمنين بها في الدعوة إليها ، أنها
و أنهم في حرص على أن يسلك المتحيَّر أو المتردد الطريق الأدنى إلى الإيمان .
والمثـل في ذلك كمثـل الذي استغـلقـت
عليه الغيوب التي أخبر بها الأنبياء عليهم السلام ، من البعث والحساب ، والجنان
والنيران ، فتمر به على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، تريه إعجاز ما بين صدعه
بالتوحيد فريداً مكذّبا ، وبين صدع المؤذنين بالتكبير قبل نهاية سيرة الراشدين من
خلفائه على كل روابي أرضين المدنيات ، فتجعل رؤية إعجاز السيرة باب تصديق يدلف منه
إلى ما يكاد أن يكون رؤية لذلك الغيب ، و تكون قد جعلت الإيمان بالرسول صلى الله
عليه وسلم سبباً للإيمان بالله ، ولا نعلم فقيهاً يمنع ذلك ، غير الباقلاني ، فإنه
يوجب الإيمان بالله تعالى قبل الإيمان برسله صلى الله عليه وسلم ، وليس لمنعه وجه
ظاهـر .
هذا بَلْهَ عن امتلاء القرآن بنداءات
بسيطة و دعوة إلى تفكّر في خلق السماء و الأرض يقود إلى الإيمان بالله .
وكل ذلك من وجوه كمال عقيدة الإسلام ،
بما نّوعت خطابها لأنصاف العقول و مقادير النباهة ، فمن أشكل عليه التعليل :
أدخَلَتْه من باب ما يمكن حِسه ، وعوّضت عن التعليل بتكرار التذكير .
و الواقعية التي نريد أن نستـفيد منها
اليوم ليست إلا التي وفرتها عقيدتـنا منذ أبعد الأمس ، حين أطنبت في التذكير بالموت ، و أنذر كِتابُها سكرةً لا بد
أن تميد لها كل نفس مهما كانت عنها تحيد .
و لهذا وجب على خطة الحركة الإسلامية
التربوية أن تعتمد التذكير بالموت ضمن أسسها ، و تأخذ بيد كل داعية ليلمس لمساً
قريباً حقيقـته وتـفاهة الحياة ، فينطلق من بعدُ انطلاقته في البذل ، و يتخلص من
ثِـقـلة إلى الأرض تحاول الأموال أن تُركس كل متـزين بها إليها .
·
لوحة من الفن الإسلامي :
و لئن جمع قادة الحروب جنودهم قبل كل
معركة ، و حـلـّقـوا بهم حلقة ، ليرسموا لهم على الأرض خطة تعبئة لحصار عدوهم ،
فإن على قادة الحركة الإسلامية أن يرسموا قبل ذلك لحلقات الدعاة إلى الله خطة حصار
الأجل للأماني الكواذب ، يذكرونهم إياه ، كما رسمه النبي صلى الله عليه وسلم ذات
يوم لأصحابه على أرض المدينة ، ففتحت لهم – لما وعوا خطوطه – المدن .
و كان فيهم يومها : عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه فوصف فقال : ( خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً ، وخط خطاً
في الوسط خارجاً منه ، و خط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط ، من جانبه الذي
في الوسط ، وقال : هذا الإنسان ، وهذا أجله محيط به – أو : قد أحاط به – وهذا الذي
هو خارج : أمله ، وهذه الخطط الصغار : الأعراض ، فإن أخطأه هذا : نهشه هذا ، و إن
أخطأه هذا : نهشه هذا ) [98]
وكان فيهم أيضاً : أنس بن مالك رضي الله
عنه ، فوصف ، فقال : ( خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً ، فقال : هذا الأمل ،
وهذا أجله ، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقـرب ) [99]
وفي رواية : مثل ابن آدم جنبه تسع و
تسعون مَنِيَّة ، إن أخطأته : وقع في الهَرَم .
و اكتملت بهذه الخطوط الشريفة لوحة من
الفـن الرمزي التجريدي فريدة .
إنه الإنسان الضعيف تغزوه الأعراض غزواً
فيه إلحاح . عدوى ، أو سرطان ، أو حريق ، أو غرق ، أو زلق ، أو سقوط ، أو اصطدام ،
أو لدغة ، أو تسمم بطعام ، أو طلقة تائهة .
فإذا نجا من كل ذلك : كان له في الهرم ،
و ضغـط الدم وارتـفاع نسبة السكر : تأديب أي تأديب .
فإن أطال النـَفـَس : اقتص منه الموت {
قل إن الموت الذي تـفرون منه فإنه ملاقيكم } تعددت الأسباب والموت واحد ، يحاصر
الأمل الشارد الذي يتوهم الإفلات حصاراً شديداً .
أمل أبيض وضّاء ، كلما برق : زهت في نظر
صاحبه الأموال ، و الحِسان ، و العطور ، و القـصور ، و المناصب ، و الشهادات ،
فينسى مع نظره المنسرح المسترسل متطلبات دعوتـه ، و يصد عينه عن أرض مقدسة يـفسد
فيها يهود ، ولا يعود أنفه يشم رائحة شواء دعاة الإسلام في الصومال ، ولا نتن جثث
الأتراك تحت حائط في قرية قبرصية ، وتتـناسى أذنه وقع أحذية عساكر الهنادك في
البنغال ..!
لكنه لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله
الوضاء إنما يـلـفه محيط أسود حالك ، يتيه فيما دونه من الظلمات ما لم يتبع في
مشيه مخرجاً تدل عليه التـقوى .
فهو تَرَقُّب جميل ، لكنه يتـنغص .
وظل ظليل .. لكنه يتـقـلص .
ومطامع وراء الأودية والمفاوز ، وليس هو
لما قـُدر له بمجاوز .
و أنفاس قبل كل ذلك .. تـُعدُّ .
ورحالة .. تـُشدّ.
وعاريته .. تـُرد .
و التراب من بَعد .. ينتظر الخد
فإنه ليس عُقبى الباقي غير اللحاق
بالماضي .
وعلى أثر من سَلَفَ .. يمشي من خَلَف .
و ما ثَمَّ إلا أمل مكذوب ...... و أجل
مكتوب .
·
رؤيــة تـــمــتــد
و " إن هذا النظر ، الذي وراءه
التذكر ، الذي وراءه التـقوى ، التي وراءها الله ، هذا وحده هـو القوة التي
تتـناول شهـوات الدنيا فتصفـِّيها أربع مرات ، حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية
الصغيرة التي آخرها القبر ، و آخر وجودها التلاشي " [100]
و " إن الذي يعيش مترقباً النهاية
يعيش مُعداً لها , فإن كان مُعداً لها : عاش راضياً بها , فإن عاش راضياً بها :
كان عمره في حاضر مستمر ، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها ، فلا يستطيع
الزمن أن ينغـص عليه مادام ينقاد معه و ينسجم فيه ، غير محاول في الليل أن يبعد
الصبح ، ولا في الصبح أن يبعد الليل " [101]
و بمثل هذا النظر و الترقـب الذي أكسبه
الأنبياء عليهم السلام من قاتل معهم من الربّيين : صفت النفوس ، و ثبتت بركيزة من
الطمأنينة سكنت معها و هدأت ، فرأت حين زال الاضطراب إطار الحقائق الترابية
للشهوات الدنيوية ، فزال ما هنالك من تطلع زائد .
ثبات له من الرسوخ إزاء الأماني مثـل
الذي كان ما بين رؤية إبراهيم عليه السلام للأفولِ ، فلم يحب الآفلين ، وبين بقية
من حنيفيته – كادت أن تتصل ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم – أرَتْ أمية بن
أبي الصلت حقائق الحياة ، فكاد أن يسلم ، فصرخ فيما حوله من جاهلية :
اقترب الوعدُ ، والقلوب إلى اللهو ****
و حب الحياة سائقُها
ما رغبةُ النفسِ في البقاء وأن ****
تحيا قليلاً والموت لاحِقها ؟
أمامـها قـائـد إلـيـه ، ويحدوها
****حثـيـثـاً إلـيـه سائقـُها
قد أيقنت أنها تصير كما **** كان يراها
بالأمس خالقـُها
و إن ما جمّعت وأعجبها **** من عيشة
مُرة مفارقُها
من لم يَمُت عَبطة يمت هَرَما ****
للموت كأسٌ و المرءُ ذائقـُها
فكانت صرخاته في عكاظ إرهاصاً ينبي عن
نبوة جديدة ، أحيت لما جاءت سنن الترقب و النظر الذاكر ، فزهد أصحابٌ ورثوها بما
هنالك ، فانقـلبوا يصلحون للإنسان الواهم ما أفسدتـه شهـواته ، وما متاع أحدهم عند
الوداع غير بُردة قصيرة جعلت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يبكي ، و يعاف الطعام
، ويقول :
( قـُتـل مصعب بن عمير وهو خير مني :
كـُفـن في بُردة ، إن غُطي رأسه : بدت رجلاه ، وإن غـُطي رجلاه : بدا رأسه , ثم
بُسط لنا من الدنيا ما يُبسط ، وقـد خشينا أن تـكون حسناتـنا عـُجـِّـلـت لنا ) [102]
·
نـسيـان الـمـوت أول الإنحـراف
و ليس ذاك بكاء الأسى ، حَزناً أن لم
يَرَ أخاه مصعباً مترفاً ، إنما هو بكاء الخشية من بعض مباح أن يكون حسنةً معجَّلة
تمنعه الآجل ، كما أفصح ، ودموع حذر تخرجها روعة تجرد لجهاد يرى ذهاب أبطاله
تباعاً ، فيخلف من بعدهم خلف تـكثر في يده الأموال ، و يخاف أن يتـنافسوها ،
فيتوقـف نبض فتوح الهداية .
يشبه بكاؤه ذاك عبرة ظلّ يـغـص بها حَلق
أبي الدرداء مراراً وهـو يـقول : ( أبكاني فراق الأحبة : محمد وحزبه ) [103]
, يُعبر بها عن وجله من جديد طرأ على سمت الجيل الثاني ، مثـلما يريد بها إظهار
ألمه لفـراق أخوة كانوا له سبب هداية وتـثبيت ، وفهمهم وفهموه ، في تعامل مسترسل ،
ما التالي لهم - مهما حرص - بقادر على أن يُسلي عن قلب أبي الدرداء رضي الله عنه
تسليتهم عنه . وكأنهم حالة ما زالت تستبد بكثير من الدعاة الغرباء ، لا يستطيعون
لها وصفاً .
لكنه حزن المجاهد الفقيه ، ما كان ليهبط
بأبي الدرداء إلى حسرات تستهـلك الهمّة ، بـل أدى بـه إلى صـعود سُلم
التربية ، فاعتـلى درج مسجد دمشق ، فقال
: ( يا أهل دمشق : ألا تسمعون من أخ لكم ناصح ! إنّ من كان قبلكم كانوا يجمعون
كثيراً ، ويبنون شديداً ، ويأملون بعيداً ، فأصبح جمعهم بوراً وبنيانهم قبوراً ،
وأملهم غروراً ) [104]
و لبث في أهل دمشق سنين يخفـف أثر هجمة المال ، ثم أورث المقال أهله ، فكان الرجل
منهم يأتي أم الدرداء يستـنصحها فيـقول :
( إني لأجد في قلبي داءً لا أجـد له
دواء . أجد قسوة شديدة وأملاً بعيداً ! ) فتـقول : اطلع القبور واشهد الموتى [105]
·
إحياء الأمة بذكر الموت
وقارب الاستدراك في زمن الراشد الخامس
أن يتم ، لولا السم .
فقد واصَلَ عمر بن عبد العزيز رضي الله
عنه الطريقة ، فأرجف بذكر الموت قـلوب جيله رهبة ، فنفضت رانها ثم انـثـنى ، فحرك
إلى الشهادة حَنانها .
و ما أكثر ما وقف عمـر موقـف أبي
الدرداء على درج مسجد دمشق ، ليجدد الوعظ القديم ، ويقرر لهم :
" إن الأمان غداً لمن حذر الله
وخافه ، و باع قليلاً بكثير ، و نافذاً بباق " .
حتى إذا أيقنوا صواب الصفـقة : راح
يريهم من يومياتهم وواقعهم ، بعين التأمل ، مالا تراه عين الغفلة ، ويقول لهم :
" ألا ترون في أسلوب الهالكين ، وسيخلفها من بعدكم الباقون ، وكذلك حتى
تُردّوا إلى خير الوارثين ؟ ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشّيعون غادياً إلى
الله ورائحاً ، قد قضى نحبه ، وانقضى أجلُه , وطُوي عمله ، ثم تضعونه في صُدع من الأرض
في بطن لحد ، ثم تَدَعُونه غير موَسَّد ولا ممهّد ، قد خلع الأسلاب ، وفارق
الأحباب ووُجّه للسحاب ، غنياً عما ترك ، فقيراً إلى ما قدّم " . ولربما أجلس
أحدهم أمامه و علّمه ، تعليمه عنبسة بن سعيد : " يا عنبسة : أكثـر ذكر الموت
، فإنك لا تـكون في ضيقة من أمرك ومعيشتـك فتذكـر الموت إلا اتسع ذلك عليك . ولا
تكون في سرور من أمرك وغبطة فتذكـر الموت إلا ضيّق ذلك عليك " [106]
حتى إذا ربّى حاشيته ، و خلصوا من وهـم
الأمل نجيّاً : راح ينشر مذهبه في الأمصار ، فيرسل على أعيانهم ، فيأتونه ، فيفشي
لهم سِرّ القبر ، وما هـو عند أولي الألباب بِسـرّ .
قال التابعي محمد بن كعب القرظي رحمه
الله :
( لما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه
الله بعث إليّ وأنا بالمدينة فقدمت عليه , فلما دخلت جعلت أنظر إليه نظراً لا أصرف
بصري عنه ، متعجباً ، فقال : يا ابن كعب : إنك لتـنظر إليَّ نظراً ما كنتَ تـنظره
!
قلتُ : متعجباً
قال : ما أعجبك ؟
قلت : يا أمير المؤمنين : أعجبني ما حال
من لونك ، و نَحَلَ من جسمك و نفي من شَعرك .
فقال : كيف لو رأيتـني بعد ثلاثة ، وقد
دلّيتُ في حفرتي ، وسالت حدقتي على وجنتي ، و سال منخري صديداً و دوداً ؟ ) [107]
فشاع خبره في الآفاق ، حتى إذا أرسل إلى
أعيان الكوفة : بادروه مبادرة ، و جلبوا شاعرهم أعمش همدان معهم ، يعلن له قناعتهم
و براءتهم من أمل يطاره عمر ، قد عرفوا جده في إجلائه عن دار الإسلام .
و ينطلق الأعمش بين يدي عمر :
و بينما المرءُ أمسى ناعماً جذلاً ****
في أهله معجباً بالعيش ذا أنَقِ
غِرّاً ، أتيح له من حَينِهِ عَرَضِ
**** فَمَا تَلبّثَ حتى مات كالصَّعِقِ
ثـُمـّتَ أضحى ضحى من غِبَّ ثالثة ****
مُقنّعاً غير ذي روحٍ ولا رَمَقِ
يُبكي عليه و أَدنوهُ لمُظلِمَةٍ ****
تـُعـلى جوانبها بالتـُرب و الفِلَقِ
فما تـَـزَوَّدَ مما كان يَجمعُهُ ****
إلا حَنوطاً و ما واراهُ مِن خِرَقِ
و غيرُ نـَفـْحَةِ أعوادٍ تـُشـَبُّ له
**** وقلَّ ذلك من زادٍ لمُنطِلقِ
فتـنهمر
هاطلة دموع عمر ، وتختـلط بأصوات نشغاته ، ليتجاوز تَرادّ صداها دهـوراً تـتعاقب ،
يـقود المربين المسلمين .
·
عـودة إلى الـرشـد :
ولئن توالى اليوم فراق الأحبة ووداع
الرعيل الأول المتجرد المتواضع المؤسس لـلحركة الإسلامية المعاصرة ، لنبكـيه مع
هجمة المال بكاء أبي الدرداء ، أو بكاء سلمان الفارسي ، وفي رواية أخرى حذراً
وغربة ، حين افتـقدا ، رضي الله عنهما ، حزب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن بكانا
لا يحق له أن يهبط بنا إلى تأوهات تجاوزتها همتهما ، ولا بد لنا - مع بداية مرحلة
جديدة تُرشِح دعوتـنا لملء فراغ تركه فشل التطرفات القومية و الشيوعية - من
ارتـقاء درجات الاستدراك التربوي ، هامسين لكل داعية بمواعظ عمر ، لتعود لنـفسه
فتوتها و إقدامها ، وتطـلعها الأخروي ، فإنه قد طال التجوال في البطالة ، و لربما
حـيـَّر ، وامتـد الركون إلى الاغتـرار و كأنه قد غيـّر .
وكأن بالداعِ قد يبكي **** عليه اقربوهُ
و كأن القوم قد قاموا **** فقالوا :
أدركوهُ
سائلوه ، كلموهُ ****حرّكوه ، لقـنوهُ
حرِّفوه ، وجِّهوهُ **** مدِّدوه ،
غمضوهُ
عجَّلوه لرحيلٍ **** عجّلوا لا تحبسوهُ
ارفعوه ، غسلوهُ **** كـفـِّـنوه ،
حنّطوهُ
فإذا ما لُفَّ في الأكفان **** قالوا :
فاحملوهُ
أخرجوه فوق أعواد **** المنايا شيّعوهُ
فإذا صلوا عليه ****قيل : هاتوا و
اقبروهُ
فإذا ما استودعوه **** الأرض رهناً
تركوهُ
خلـّـفـوه تحت رمسٍ **** أو قـروهُ ،
أثـقـلوهُ
أَبعدوهُ ، أَسحَقوه **** أوحَدوه ،
افردوهُ
ودّعوه ، فارقوه **** اسلَموه ،
خلــَّـفـوه
و انثنوا عنه و خلّوه **** كأن لم
يعرفوهُ
8-
تـِلالـنـَـا الـهـامِـدة
لئن
رأينا أبا الدرداء رضي الله عنه بعد فـراقة حزب محمد صلى الله عليه وسلم باكياً ،
فإنه سرعان ما انـقلب ضاحكاً ، ليقول : ( أضحكني : مؤمل الدنيا ، والموت يطلبه ,
وغافل ، ليس بمغفول عنه , و ضاحك بملء فيه ولا يدري أرضى الله أم أسخطه ) [108]
وإنما
هـو ضحك التعجـب من صورة حياتية يشاهـدها كل مراقب لحياة الناس ، يرى خلالها
أنماطاً من الغـفـلة تحرف شدةُ طمع تصاحبها بعضَ الناس عن رؤية مصير رهيب يتخطف
غيرَهم من حولهم ، وما لهم أدنى ضمان لدفعه لو جاءهم كما يجيء أولئك .
فالناس في غـَفـَلاتهم **** ورَحى
المنيّة تـَطْحنُ
وهي
ضحكة قد تهجم على صاحبها لأول وهـلة حين يحار في تـفسير هذه الظاهرة ، لكنها سرعان
ما تتحول إلى شفـقة ورحمة تأبى إلا أن تصدم الغافل صدمة إيقاظ تخرجه عن سكونه .
رحمة
حركـت أبا الدرداء برفـق فأتى إلى هـذا الذي أضحكه فنـقـر بأصبعه على كتـفه
فالتـفـت ، فهمس في أذنه أن : ( ويحك كيف بك لو قد حُـفِـرَ لك أربعُ أذرع من
الأرض ) [109]
وما نـدري مدى حظ ذاك المرء من التوفيق ، إن كان انخلع من غـفـلتـه أم سَدر فيها
ولكنا ندري أن هـمسة أبي الدرداء ما زالت حية ، وأن ما ذرعه لم تـزده الأيام سعة
وطولاً ، وأن قبل هذه الأذرع الأربعة وبعدها قصة متصلة المشاهـد ، يرويها الرواة
لمن يلـقي السمع وهـو شهيد .
·
يــوم الـحــصـاد :
مشهدها
الأول : يوم الحصاد : يوم يحصد الموت الروح كما يحصد المنجل الزرع .
وليس
في التشبيه مفارقة ، فإن حصاد هذه الأرواح
يحوي مثـل ذلك من الفوائد ، من بين موت شهادة ظاهـر نفعه ، وموت دون ذلك يكون
للغير سبب اعتبار و ادكار .
وذلك
ما صوره الشاعر حين خاطبك فقال :
ما أنت إلا كزرع عند خُضرته **** بكلِ شيء من الآفات مقصودُ
فإن سَلِمتَ من الآفات أجمعها **** فأنت
عند كمال الأمر محصودُ
أو
قد يسمى هذا اليوم :
يوم
الصراخ ، و ذاك حين يعرق الجبين ، و يتتابع الأنين ، وتكون الغرغرة ، وتبرد
الأعضاء ، وتستبد السكرات ، فيفتضح الضعف ، فيعلو الصراخ .
باكيات عليك يندبن شَجوا **** خافقاتِ
القلوب و الأكبادِ
يتجاوبن بالزنين ويذرفن **** دموعاً
تفيض فيض المزادِ
فيأتي
من يحبسْهن جانباً ، ليغسلوك على عجل .
عجلة
يضجـر الغاسل معها إن تباطأ من يحمي الماء ، فينادي : ألا إن وراءنا أشغالنا
فاستعجلوا !!
كما
هـو الخلق القديم في الغاسلين ، منذ عصر من قال :
كأن لم أكن إذ احتث غاسلي **** و أحكم
درجي في ثياب بياض
و
ما هي إلا أذرع أربعة من القماش الرخيص ، كتلك من الأرض السبخة ، يحملك بعدها
أصحابك على الرقاب
فلا تـنس يوماً تسجَّى على **** سريرك
فوق رقاب النـَفـَر
فإن
كنت صالحاً : استبشرت تـلـك الساعة ، ولبثت تصيح طرباً قدّموني ، تصدق ما أخبر به
النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :
(
إذا وُضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت غير صالحة قالت لأهلها
: ياويلها ! أين يذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمع الإنسان
لصعق ) [110]
·
ثـم يـوم الــرقـاد :
و تـنتـقل القصة إلى
مشهد ثان يسمى : يوم الرقاد الطويل ، يبدأ بملكين يفتـنان الميت ، ذكر خبرهما
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( أوحي إليّ أنكم تـُفـتـنون في القبور قريباً من
فتـنة الدجال . فأما المؤمن أو المسلم فيـقول : محمد جاءنا بالبينات ، فأجبنا
وآمنا .
فيقال : نـَم صالحاً
، علمنا أنـك موقـن .
وأما المنافق أو
المرتاب فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئـًا فـقلتـه ) [111]
و ذلك هو الحوار
المذكور في الحديث الآخر ، أنّ : ( العبد إذا وضع في قبره و تولّى و ذهب أصحابه ،
حتى أنه ليسمع قرْع نعالهم ، أتاه ملكان فأقـعداه .
فيقولان له : ما كنت
تـقول في هذا الرجل ، محمد صلى الله عليه وسلم ؟
فيقول : أشهد أنه عبد
الله ورسوله .
فيقال : أنظر إلى
مقعدك من النار ، أبدلك الله به مقعـداً من الجنة .
قال النبي صلى الله
عليه وسلم : فيراهما جميعاً .
و أما الكافر أو
المنافق فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يـقول الناس .
فيقال : لا دَرَيت
ولا تَلَيتَ .
ثم يضرب بمطرقة من
حديد ضربة بين أذنية ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثـقـلين )[112]
فيستيقـظ
الدود لتـلك الصيحة ، ويهجم هجومه فيستـسلم الرجل ويذعن ويأخذ يـقول كأنه يستـزيد
:
ضعوا خدي على لحدي
ضعوه **** و مِن عـَفـْـر التراب فوسٍّدوه
وشـُـقـوا عـنه
أكــفـاناً رقـاقـاً **** وفـي الـرمْس الـبعـيد فـغيـّـبوه
فـلـو أبـصرتـمـوهُ
إذا تـقـضـت **** صبـيحة ثـالثٍ : أنـكـرتـموه
وقــد مـالت نواظـرُ
مـقلـتـيه **** عـلى وَجَنـاتــه ، فـرفضـتـمـوه
فهنالـك يكون السكون
، حيث تصفر الرياح على تلال هامدة واطئة ، فيصل صفيرُها إلى آذان أمهاتٍ ثكالى
يخرجن ببلاهة يـقودهن الصفير إلى قبور أبنائهن ، لتسأل كل واحدة منهن ابنها :
بأي خديك تَبدّى
البلى **** و أي عينيك إذاً سالا ؟
فيجيبهن صوت بعـيد ،
من حيث القبـر الأخير المنـزوي :
لم تبق غير جماجم
عَرِيتْ **** بيضٌ تلوح ، و أعظمُ نَخِره
و يثـني آخر :
لا يدفعون هَواماً عن
وجوههم **** كأنهم خشب بالقاع منجَدِلُ
أو يرد صوت ثالث :
هجودٌ ولا غير التراب
حَشية **** لجنبٍ ، ولا غير القبور قِبابُ
أو يخبرهن رابع :
قد أصبحوا في برزخ
**** و مـحـلـة متـراخية
ما بـيـنهم متــفـاوت
**** و قـبـورهـم مـتـدانـيـة
فمحلها مقـتـرب ، وساكنها
مـغـتـرب ، بين أهـل موحشين ، وذوي محلة متـشاسـعـين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا
يتواصلون تواصل الإخوان . قد اقتربـوا في المنازل ، وتـشاغـلوا عن التـواصل حتى
طحنهم بكلكَلِهِ البلى ، وأكلهم الثرى [113]
.
وبينما هم كذلك إذ
جاءهم من ليس هـو بفـضولي ، وعساه عند عمر بن عبد العزيز أو عنبسه أو القرظي يتدرب
، فيسألهم :
أين الوجوه التي
كانـت محجّبة **** من دونها تـُضربُ الأستار و الـكـُـلـَلُ
و يميل بأذنه يريد
جواباً منهم ما هـم بـقادرين عليه ، فتـنـوب عنهم التـلة الصغيرة تجيب ..
و أفـصـح الـقـبـرُ
عنهم حين ساءلهم **** تـلك الوجوهُ عليها الدودُ تـقـتتلُ
قد طالَ ما أكـلوا
دهـراً و ما نعِموا **** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا
فيتولى عنهم بجناح من
الرهبة ، خفيض ، و دمع على الخدين يفيض ، يودع ويندب و يـقول :
أهـل الـقـبـور
أحبتِي **** بعد الجذالة و السرور
بعد الغَضارة و
النضارة **** و التـنعّم و الحُبور
بعد الحِسان المؤنسات
**** و بعد ربّات الخدور
أصبحتم تحت الثرى
**** بين الصفائح و الصخور
·
حـسـاب
و كـتـاب :
فيظلون بعد وداعه في
انتظار مشهد ثالث يسمى : يوم البعث
يوم إنشقاقُ الأرض عن
أهل البلى **** فيها ، و يبدو السخط والرضوان ُ
يـوم الـقيـامـة ،
يـوم يـُـظـلـم ظـلـم **** الـظالـمـين و يــشـرق الإحسانُ
{ أن تـقولَ نـفسٌ :
يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } و تـنادي أخرى : { هل إلى مَردٍّ من سبيل
}
و تستغيث أخرى : {
ياليتـنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } .
فهنالك ثالِثة يكون
الوجل :
هناك إن كنـتَ
قـدَّمت مُـدخـرا **** تـُسقى من الحوض ماءً غـير ذي أسَـنِ
وتـُـنـشر الصحفُ
فيها كل مُحتـقـبٍ **** من المخازي وما قدّمت مـن حَسَـنِ
قد كنتَ تـنسى وتـلكَ
الصحفُ محصية **** ما كنت تأتي ، ولم تَظلِم و لم تَخُنِ
فالسعيد ذاك اليوم من
كانت له في يومنا هذا بهذا عبرة ، تَستخرج من عينه و قلبه عَبرة ، تـنطق لسانه
رهبة وأسفاً ، ليدندن في الـلـيالي :
واحسرتي ، واشِقوتي
**** من يوم نشر كتابيه
وأطولَ حُزني إن أكن
**** أوتيـتـه بـشمـاليـه
وإذا سُئـلت عن
الخَطأ **** ماذا يكون جوابيه ؟
و احَرَّ قلبي أن
يكونَ **** مع الـقـلوب القاسية
كلا ولا قـدمت لـي
**** عـملاً لـيوم حـسابـيـة
بــل إنني لشقـاوتي
**** وقسـاوتي و عـذابـيـه
بارزت بالــزلات في
**** أيــام دهــرٍ خـالـيـه
من ليس يخـفى عنه من
*** قُبح المعاصي خافية
·
ما بعد هذا إلا التشمير
فأما صاحب القـلب
الحي فنقـُصّ له قصة الأيام الثلاثة هذه . وأما أموات القـلوب فذرهم في ركستهم
يتخبطون .
{ ذرهم يأكلوا و
يتمتعوا و يلههم الأمل فسوف يعلمون } تَمتّعَ آكلةِ الخَضِرَةِ التي حدثنا عنها
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( آكِلة الخَضِرَة أكلت .
حتى إذا امتَدت
خاصِرتها : استـقـبـلت الشمسَ .
فاجترت وثـَـلطت ،
وبالت .
ثم عادت فأكلت )
هكذا كالخرفان تماماً
، يأكـلون و ينامون ، فيتغوطون ، فيعودون إلى الأكل ، ولا شيء آخر .
تعست حياتهم !!
فتدبر أمرك أيها
المسلم و تأمل .
وقـف ولا تعجل .
فإنك لممتحَن ، و بكسبك
مرتَهَن .
و إنه :
سيأتيك يوم لست فيه
بمكرَم **** بأكثر من حَثو التراب عليكا
بل يرى أصحابك ذلك
غاية الإكرم لك .
يقولون : كان رحمه
الله صديقاً لنا ، ولا بد أن نكرمه ، وواجب أن نحضر لنحثوا التراب عليه .
وكم قد رأينا فـتى
ماجداً **** تـفـرّع في أسرة ماجـده
رماه الزمان بسهم
الردي **** فأصبح في التـلة الهامدة
فاذكر و اتعـظ و لا
تـنشغل بالأمل عن ذكـر قـصة الحصار والحصاد والأجل عَسَـيتَ بفضل الله تـنجو ، و
تـفوز ببعض ما المؤمن يـرجـو ...
9- مـــدارس
الــمــوت
خط رسول الله صلى
الله عليه وسلم خطوطه ، فاستيأس الأمل ، فبات الأصحاب يحبون أحب الأمرين إلى الله
: حياتهم أو الموت .
إلا الفاروق عمر رضي
الله عنه ، فإنه جمع بين هجر الأمل ، والجزع من الموت و كـراهـتـه ، فاتحاً بجمعه
هذين النقيضين باباً يلج الموفق منه إلى زيادة في فـقـه الدعوة . وذاك حين طعنت
المجوسية أبا حفص طعنتها ، فثغب جرحه دماً كثيراً أخرجه إلى جَزَعٍ وافقَ دخولَ
عبدالله بن عباس ، رضي الله عنهما ، عليه ، فَفَغَر فاه مستغرباً ، فقال عمر :
" أما ما ترى من جزعي ، فهو من أجلك وأجل أصحابك " [114]
.
و بهذه الحروف اختتم
رضي الله عنه سيرة أتعبت كل دعاة الإسلام من بعده .
فالحياة يطلبها
الغيور طلباً ، ويجزع لورود الموت جزعاً ، لما سيحول بينه وبين خدمة المسلمين
والقيام بأمور دعوة الإسلام .
وغدا هذا المفهوم ،
بهذا المقدار ، يمثل الوجه الآخر للتـربية الحركية الكابحة لانطلاق الآمال
الدنيوية ، يمارس الداعية خلال نظره المتكرر إليها إيجابية تبعده عن يأس سلبي
وتـزهيد بالعمل يسببه نظر ناقـص إلى مجرد كبت الآمال .
·
مـدرسـة الـكـوفـة تـواصـل الـذكـرى
ولئن كشفت هذه
الكلمات في نهاية خلاقة عمر - من جانب - للغافلين سر ما رآه المسلمون منه من تعب و
سهر و تـفكـّر ، فتأهبوا للاقتداء ، فألهاهم عبدالله بن سبأ زمن عثمان رضي الله
عنه ، وأذهلهم ، فإن تشميراً رآه الناس في بداية خلافة علي رضي الله عنه ، كان
بحاجة - من جانب آخر - بعد ذاك الذهول ، إلى كلمات أخرى تعظهم ، و تعيب عليهم
أملاً وجد له أثـناء سنوات الفتـنة مجال نمو ، بـردت معه همم المقـتـدين .
و من هذه الحاجة نشأت
مدرسة الكوفة في التذكير بالموت ، إذ طفق علي رضي الله عنه يجمع الناس في مسجد
عاصمته ، ويصارحهم و يقول : " إنما أخشى عليكم اثنين : طول الأمل ، و اتباع
الهوى ، فإن طول الأمل يُنسي الآخرة ، و إن اتباع الهوى يصد عن الحق " [115]
. و تـنتدب جمهرة من فقهاء أصحابه نفسها لمعاونته ، فيقوم الصحابي الأغلب بن جشم
العجلي بعده ، فينشد بين يديه قصيدته التي مطلعها :
المرء تواقٌ إلى ما
لم ينل **** و الموت يتـلو ، ويلهـيـه الأمل
فيـتـلوه سيد زهاد
التابـعـيـن : أُويس بن عامر القرني ، فـيـقول : " يا أهل الكوفة : توسّدوا
الموت إذا نمتم ، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم " .
حتى إذا قـُتـل علي
بعدما خشعت الـقـلوب وادكرت استمرت ثـلة من أصحابه على سمته في الوعظ ، فكان
الربيع بن خثيم يقول لهـم :
" أكثروا ذكر
هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثـله " [116]
. ويحفر له قبراً ، ويأخذ ينزل فيه كل يوم يتمدد ، ثم يقوم يذكر لهم مشاعره لما
يكون بقعره .
ويذكر سعيد بن جبير
لهم مـقـدار تـصفـية كلمات علي لـقـلبه ، فيقول : " لو فارق ذكر الموت قلبي :
خشيت أن يفسد عَليَّ قَلبي " [117]
وكل هؤلاء : سعيد ،
والربيع ، وأويس ، رحمهم الله ، والأغلب رضي الله عنه ، من ثـقات أهل الكوفة الذين
رباهم علي رضي الله عنه ، فلما ماتوا : أورثوها لآخرين يحفظون للكوفة سمتها ، فكان
عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي يرتـقي المنبر و يسألهم : " كم من
مستـقبـل لا يستـكمله ، ومنـتـظـر غداً لا يبلغه . لو تـنظرون إلى الأجل و مسيره ،
لأبغضتم الأمل و غروره " [118]
فإذا نزل : صعد عمر
بن ذر ، فخطبهم :
" أما الموت
فـقـد شَهَرَ لكم ، فأنتم تـنظرون إليه في كل يوم وليلة ، من بين منـقول عزيز على
أهله ، كريم في عشيرته ، مطاع في قومه ، إلى حفرة يابسة وـحجار صُم ، ليس يقدر له
الأهلون على وِساد إلا خالطه فيه الهوام ، فوساده يومئذ عمله . ومن بين مغموم غريب
، قد كثر في الدنيا همّه ، وطال فيها سعيه ، وتعب فيها بدنه ، جاءه الموت قبل أن
ينال بغيته ، فأخذه بغتة . ومن بين صبي مرضَع ، ومريض موجَع ، ورهن بالشر مُولَع ،
وكلهم بسهم الموت يُقرع "
فلما مات هؤلاء النفر
، واجتمع علمهم وعلم شيوخهم عن علي في سفيان الثوري : تولاها طريقة ، واتخذ الموت
نشيداً ، حتى قال أحد تلامذته : " ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكر الموت ،
وما رأيت أحداً أكثر ذكراً للموت منه " [119]
وهكذا أعطت مشيئة
الله تعالى لمدرسة الكوفة من بعد عمر بن الخطاب دَورها في رقابة سواء سبيل أمة
الإيمان ، وحفظه من الإنحراف وطغيان الآمال ، وشَرفها ، فتمثـلت بها بقية نهي عن
الفساد ، تكثر حيناً ، أو تـقـل من دون انقراض ، ليست دعوة الإسلام المعاصرة غير
استرسال في كفالة الـقـدر لوجودها ، وما وراثـتـنا لها إلا وراثة قربى في النسب
واشتراك في المورد .
·
فـبـرز لـهـا بـالـشـام عـمـر
وكان الذي رويناه من استـدراك عمر بن عبدالعزيز في أواخـر
المائة الأولى حـلـقـة ضمن دعوة البقية الرقـيبة على سير الـقـرون ، اتصلت بمدرسة
علي الكوفية عن طريق عون ابن عبدالله ، وعمر بن ذر ، وأعشى همدان الشاعر ، الآنف
ذكرهم ، اتصالاً اعتيادياً كما هو شأن العلم في تـقـلبه في البلاد ، و شأن البقية
الناهية في تـقلبها عبر القرون ، لكنها حلـقة استطاعت أن تستأثـر بحيازة إعجازين
قصرت عنهما الحلقات التي بعدها :
*
إعجاز أكسبه إياها موضع الخلافة العالي ، فشخصت القدوة المهابة من بعد بعض
انقطاع ، فتسارع الإصلاح ، فاختصر الزمان ، فكانت هنيهة قصيرة أثرت دهـوراً طويلة
.
*
وإعجاز بلاغي آخر ، وليد تـفكر وعمر ، وربيب نغمة من فصاحة عربية كانت ما
تـزال تـنساب من فيه ، بها فضح عيب تمتع جيله بأسلاب الهالكين ، وبها راد لقرون
تـليه خبر موت أعمله حدسه أنها ستـكون عـنـه من اللاهـيـن ، فحدثها حديث صدق عن :
( قبور خـرقت
الأكـفان ، ومزقت الأبدان ، ومصّت الدم ، وأكلت اللحم . تـُرى : ما صنعت بهم
الديدان ؟ مَحَت الألوان ، وعـفـرت الوجوه ، وكسرت الفقار ، وأبانت الأعضاء ومزقـت
الأشلاء .
تـُـرى : أليس الليل
والنهار عليهم سواء ؟
أليس هم في مدلهمة
ظلماء ؟
كم من ناعم و ناعمة
أصبحوا وجوههم بالية ، وأجسادهم عن أعناقهم نائية ، قد سالت الحدق على الوجنات ،
وامتلأت الأفواه دماً وصديداً ، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً ، حتى عادت العظام
رميماً . قـد فارقوا الحدائق ، فصاروا بعد السعة إلى المضائق ) .
ثم راح ينادي حتى صحل
صوتـه : ( ياساكن الـقـبر غدا ، مالذي غرك من الدنيا ؟
أين دارك الفيحاء ؟
و أين رقاق ثيابك ؟
ليت شعري كيف ستـصبـر
على خشونة الثرى ، وبأي خديك يبدأ البلى ؟ )
وبمثـل هذا : استأسر
فقهاء الأمصار لعمر ، فجمع قلوبهم حوله ، و جعلهم له أعواناً في تعميم رشده ، و
أخرجهم إلى مشاركة جماعية في تعليم الأمة و تربيتها ، متـناسقة مع أسلوبه ، أغنت
حكمه عن سيف وحساب ، و استثمر بها طاقات خير دفينة مغروسة في أصل فطرة الناس ، قدم
لها منه القيادة ، فقدمت له منها المتابعة .
·
مـدرسـة الـبـصـرة تــؤيـد :
ولئن أسرع عنبسة أو
القرظي الاستجابة لعمر ، في أرهاط من الشاميين والمدنيين ، فإن الحسن البصري ، عبر
عن سيادته الجيل الأوسط من التابعين طراً ، وبتأثير ما اقتبسه من علي ومدرسته
الكوفية ، قد أنزل البصرة مكانة التـقدم في التأثير التربوي في الأمة من قبل أن
يحكم عمر ، مكنها من بعـد أن تسبق الربوع الأخرى في إعادة رسم خطوط حصار الأمل ،
ورواية قصة الرقاد الطويل ، وتأكيد مذهب عمر وترويجه ، حتى غدت مواعظ الحسن أداة
تربوية ، تكتب في نسخ وتوزع مع بريد الخلافة كما توزع الصحف اليوم ، فيجـد المسلم
المرابط في أقـصى الثغور في شدة نبراتها حماسة يهتـز بها للشهادة قلبه ، تعادل رقة
يرجف لها بدن المتعلم العاكف ، والساذج المزارع ، و التاجر الساعي .
وهكذا وافـقـت دمعات
الرشد فهماً لدى إمام البصرة ، وبدأت الآمال تـقـصر بمآل إلى الردى يصوره الحسن و
يحذرها أهوالاً تستـقبلها ليست سكرات
الموت إلا بواكر حسابها وعَتب أبوابها ، فراح ينادي :
( المبادرة ،
المبادرة .
فإنما هي الأنفاس لو
حسبت : انـقطعـت عنكم أعمالكم , إنكم أصبحتم في أجَل منقوص ، والعمل محفوظ ، و
الموت – والله – في رقابكم ، و النار بين أيديكم ، فتوقعوا قضاء الله عز و جل في
كل يوم و ليلة .
لقد فضح الموت الدنيا
فلم يترك لذي لُب فرحاً و إن أمراً هذا الموت آخره ، لحقيق أن يُزهـد في أوله .
·
مـيـزان بـصـري فـي فـقـه الـدعـوة
وصاغ الحسن خلال ذلك
ميـزاناً إيمانياً يـقـدم له الواقع المرئي كـفايـة من دلائـل الإقـنـاع ، ربما
نشتـق له اسم ( ترجيح التخويف ) ، ساقه في صورة خطاب ، فقال : " إنك والله
لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً ، خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى
تـلحقـك المخاوف " [121]
وهـو ميزان يمثـل
بعضاً مما أضافه الحسن إلى فـقـه الدعوة . فالخوف العاجل عنده ، المؤدي إلى
التـقوى ، المؤدية إلى أمن آجل في ظلال الجنان : خير من مدّ عريض للنظر إلى صفات
الله سبحانه في الرحمة واللطف والغـفـران .
وكلاً من الحالتين
تـُـراد ، والأمر في حـقـيقـتـه معلق بنسبية واضحة ، ربما أوجبت تخفيف رهبة البعض
بأبواب من الرجاء أغـلـقـتها عليهم شدة الخشية ، ولكن هذا المعدن فريد ، والغرور
يلف الجمهرة العظمى ، وما من دواء لـه إلا الإخافة بـقـصة التلال الهامدة .
و في التـنبيه على
هـذه النسبية يـقول ابن الجوزي :
" إذا رأينا
أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم ، وفسدت في الخير أعمالهم : أمرناهم بذكر الموت
والقبور والآخرة فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت ، وأحاديث الآخرة
تـُـقرأ عليه ، و تجري على لسانه ، فتذكاره الموت زيادة على ذلك لا تـفـيد إلا
انقطاعه بالمرة .
بل ينبغي لهذا العالم
الشديد الخوف من الله تعالى ، الكثير الذكر للآخرة ، أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت ،
ليمتد نـَـفـَس أمله قليل ، فيصنــّـف ، و يعمل أعمال خير " [122]
·
مدرسة بغداد تجنح للبساطة
وقد أضافت المدرسة
البغدادية من بعد تـلك المدارس تطويراً مهماً إلى فـقه الزهد وكبت الآمال .. يوم
أدخلت عنصر البساطة في التذكير على لسان رائدها بشر بن الحارث الحافي لما أتاه آت
وطلب منه الموعظة فقال له :
" إن في هذه
الدار نملة تجمع الحبَّ في الصيف ، فتأكله في الشتاء ، فلما كان يومٌ : أخذت حبة
في فمها ، فجاء عصفور فأخذها والحبّة ، فلا ما جمعت أكلت ولا ما أمَّلت نالت
" [123]
هذه هي الحياة عند
بشر : إنسان يجمع ، فيأتيه الموت ، فيأخذه وما جمع .
هكذا ، بلا أبيات شعر
، ولا ألوان من الجناس والبديع نطلبها اليوم تـشغلنا عن جوهر المواعظ .
لأولي الألباب كفاية
بيوميات العصفور والنمل .
ثم بلغت هذه البساطة
البغدادية ذروتها لما تولى الإمام أحمد زمام التربية ، فذهب فيها لأبعد مما ذهب
قرينه بشر ، فسكت ، حتى أن الكتب تكاد أن لا تورد له في المواعظ قولاً ، وعوّض
تلامذتـه وأجيال الأمة عن ذلك بوجه معبـّر كأنه يطلع إلى القيامة ، وصبر على
العذاب والإغراء ثبتت به الأمة إزاء دعاية المبتدعة ، وسيرة في التعفـف و الـتـقـلـل
تستحي منها نوايا الإثـراء.
فلما مات سنة إحدى
وأربعين ومائتين ، وانتـقـل شيخ البخاري الحسن بن عبدالعزيز الجروي من مصر إلى
بغداد وسكنها ، وصار في عداد البغداديين : رأى ضرورة استمرار القدوة الصامتة ، فم
يأخذ من إرث أبيه شيئاً ، لشبهة خالطتـه ، وقال : " من لم يردعه القرآن
والموت فـلو تـناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع " [124]
قال صاحب تاريخ تـنيس
: " وكان أبوه ملكاً على تـنيس ، ثم أخوه علي ، ولم يقبل الحسن من إرث أبيه
شيئاً ، وكان يـُـقرن بقارون في اليسار " [125]
·
الـتـربـيـة بـالاعـتـراف :
وطفق المربون بعد
أحمد والحسن الجروي يمارسون طريقتين في التربية : فمن حاز مرتبة أحمد وزهده و ورعه
و حياة قلبه : قـلـّـده في سكوته ، وترك حاله تخبر الأبصار .
ومن لم يحز مثل سمو
أحمد ، ولبث دون ذلك : سلك طريـقة الاعتراف ، فيستـفـزُّ الأسماع ، كما استـفزها
الخليفة العباسي الراضي بالله ، لما جمع ببغداد الغافلين ، وحاول من بعد المتوكل
أن يتـشبه بعلي وعمر بن عبدالعزيز و يـقـلد طريقتهما ، فراح ينشد لهم من نظمه :
كل صفـو إلى كَدَر
**** كل أمنٍ إلى حَذر
ومصير الشباب للموت
**** فيه أو الكَبِر
أيها الآمل الذي****
تاه في لُجّة الغَرَر
أين من كان قبلنا
**** دَرَسَ الشخصُ والأثر
سيردُ المعارَ من
**** عمرُه كله خَطر
ربّ أني ذخرت عندك
**** أرجوك مُدّخر
إنني مؤمن بما ****
بين الوحي في السوَر
و اعترافي بترك نفعي
**** وإيثاري الضَرر
رب فاغفر لي الخطيئة
**** يا خَيرَ من غـَفـَر
أو كما استـفزها
بالأندلس آخر ، حين راح يعترف :
إلى كم أقول ولا
أفعلُ **** و كم ذا أحوم ولا أنزِلُ
وأزجر عيني فلا ترعوي
**** وأنصح نـفسي فلا تـَقبلُ
و كم ذا تعلّل لي ،
ويحَها **** بِعَلَّ وسوف وكم تمطل ؟
وكم ذا أُؤمل طول
البقا **** وأغفل والموت لا يغفلُ ؟
و في كل يوم يُنادي
بنا **** منادي الرحيل : ألا فارحلوا
كأن بي وشيكاً إلى
مصرعي **** يُساق بنعشي ولا أُمهـلُ [126]
·
و بــــعــــد :
و بعد يا داعية
الإسلام .. إنَّ من جَدّ وجد ، وليس من سَهر كمن رقـد . فلا تكن ممن تضمّه الكتائب
، وقلبه عن المشاركة غائب . و هذا الموت منـك قيد شبـر الشابـر .
و هذا دبيب يُسارق
نفسك ساعتها .
و إن سِلَعَ المعالي
غاليات الثمن ، و إنما ثمنها اتباع مدارس الكوفة والشام ، ومدرسة إمام البصرة
الحَسَن , فانظر لنـفسك .
و اغتـنم وقتـك .
( فإن الثواء قليل ،
والرحيل قريب ، والطريق مخوف ، والاغترار غالب ، والحظر عظيم ، والناقد بصير ) [127]
وفقنا الله و إياك .
10- لا يــَـا قـــيــود الأرض
لئن كان الدعاة إلى
الله قد فقهـوا طريق الاستـدراك ، ورفضوا الانصياع للفساد الذي استـشرى ، وتمردوا
على عملية التـرويض ، وبدأوا جهود تـثبيت وتربية لأولي الفطرة الصحيحة ، فإن غيرهم
بات يتألم لواقع المسلمين و يتـأوه ، ولا يعدو إبداء الحزن ، وقبع في بيته أو
مسجده ، يـلـفه اليأس ، تاركاً دعاة الإسلام وحدهم في المعركة ، يظن أنه بحزنه قد
أبرأ ذمتـه ، بل ربما يظن أنه قد كسب المناقـب .
وليس الأمر كما ظن
وإن اقترن بحزنه ما يثاب عليه ويؤجر ، فإن المسلم الذي يبغي درجات الكمال يحزن
لواقع المسلمين ، لكنه يترك بيته وراءه ظهرياً ، و يتصدى للناس ، واعظاً وناصحاً
ومربياً ، وخائضاً بهم دروب الجهـاد .
قال ابن تيمية رحمة
الله : " قد يـقـترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه ، فيكون محموداً
من تـلـك الجهة لا من جهة الحزن ، كالحزين على مصيبة في دينه ، وعلى مصائب
المسلمين عموماً ، فهذا يثاب على مافي قلبه ، من حب الخير وبغض الشر ، وتوابع ذلك
، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى تـرك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع
مضرة ، نهي عنه ، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه " [128]
فافهم هذا يا من
تتمنى أن يغيـر الله الأحوال بلا عمل منك ومن أمثالك .
وحولك من يعمل و
يناديك ...
أيها المشدود في تيه
الأماني
خفف الآهات دع عنك
التواني
لا تبالي إن بغت كف
الزمان
واعتصم بالله ذا أسمى وأفضل
أنت تدري أيها
الحيـران عنّا
كيف فوق الشمس
أزماناً حَللنا
أيها المذهول لا تيأس
فإنا
لبناء الأمة العصماء نعمل [129]
فكن من العاملين أيها
المبهـور .
إنك إن كنت تعرف أنا
خيـر من يعمل ، و أطهـر من يتصدى ، فلم تهـرب منا ؟
" إن الحسرة
والتألم وتصعيد الزفرات ليست سوى وسيلة سلبية لا تجرح قوى الباطل - بل لا تخدشها -
، وهي لا بأس بها لكنها تـنقلب إلى أمر بالغ الخطورة إذا لم يعقبها عمل إيجابي
مثمر ، إذ تـكون وسيلة لامتصاص النقمة على الأوضاع الفاسدة ، ومن ثم الركون إليها
، وعلى أحسن الفروض : استمرار هذه النقمة ، ولكن بشكل جامد لا حياة فيه يؤدي إلى
شلـل الحركة . وليس أفضل لقوى الباطل من هذا الوضع " [130]
وإنما الصواب في كل
حين أن تسلك طريق الهمة ، وهـو الطريق الذي وصفه قدوة العراق آخر الزمان العباسي ،
الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله ، فكان ينادي أهل بغداد بصوته الهادر أن :
" سيروا مع الهمم العالية " [131]
لا تتواروا ولا
تـنسحبوا ، بل سيروا مع الهمم العالية .
ولا زال هذا الطريق
هـو الطريق المعبد الوحيد في خارطتـنا .
أما الجبن ،
والانـزواء ، والتأوه ، فصحارى مهلكة .
وجرب غيرك الأعوان ،
وأعطاك النتيجة ، فقال :
لي معينان : همة
واعتـزام .
لم يجد غيرهما . و
خانته بـقـية الأعـوان .
وعونك المخلص ما
أوصلك إلى اللذة الصادقة في الحياة . ومغشوش واهم ذاك الذي يظن اللذة فحسب لذة
الـقـرب من الزوجة والأولاد والأموال ونيل
الترقيات الوظيفية .
و إنما السعادة في
رضى الله .
و إنما اللذة لذة
البذل والفداء .
و نداء الشيخ عبد
القادر يأتينا عبر الـقـرون :
" أنتم غـفـل
عما القوم فيه ، تواصلون العَناء في الكد على النفوس التي هي عدوتـكم . ترضون
أزواجكم بسخط ربكم عز وجل . كثير من الخلق يـقـدمون رضا أزواجهـم وأولادهم على رضا
الحق عز وجل " .
وما بغير البذل ينطق
قاموسنا ، " لكن يغلط الجفاة في مسمى الحياة ، حيث يظنونها التـنعم في أنواع
المآكل و المشارب و الملابس و المناكلح ، أو لذة الرياسة و المال و قهر الأعداء
والتـفنن بأنواع الشهوات ، ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم ، بل وقد يكون
حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان ؛ فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي
تشاركه فيها السباع و الدواب و الأنعام فذلك ممن ينادي عليه من مكان بعيد . ولكن
أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الأبناء والنساء
والأوطان والأموال والإخوان والمساكـن ، ورضي بتركها كلها والخروج منها رأساً ,
وعرض نـفسه لأنواع المكاره والمشاق ، وهو متحل بهذا منشرح الصدر به ، يطيب له هجر
ابنه و أبيه و صاحبته و أخيه لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، حتى أن أحدهم ليتـلقى
الرمح بصدره و يقول : فزت و رب الكعبة . و يستطيل الآخر حياته حتى يـلـقي قوتـه من
يده و يـقول : إنها لحياة طويلة إن صبرت حتى آكلها ، ثم يـتـقـدم إلى الموت فرحاً
مسروراً " [132]
هذا ما نعرفه من شأن
الداعية . لا يكون كامل العبودية لله حتى يصل إلى مثـل حال إبراهيم عليه السلام ،
لما استسلم وأطاع ووضع السكين على حلق ابنه ....
و بهذا وصفه اقبال ..
ليس يدنو الخوف منه
أبداً **** ليس غير الله يخشى أحداً
لحنه في القـلب ناراً
اشتعلاً **** من قيود الزوج والولد خلا
معرض عما سوى الله
الأحد **** يضع السكين في حلق الولد [133]
إن من واجبات المسلم
إزاء محاولة استـئناف الحياة الإسلامية وإرجاع الإسلام إلى الهيمنة من بعد الحدث
الهائل في تـنحيته هي واجبات واضحة بينة ، وأكثر من نراه من المسلمين المتحسرين
أصحاب الأماني المتأوهين " يكون
عالماً بها ، ولا تـنهض همتـه إليها ، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً ، و قلبه عن
كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً ، قد أسام نفسه مع الأنعام ، راعياً مع الهمل ،
واستطاب لقيمات الراحة والبطالة ، واستلان فراش العجز والكسل ، لا كمن رفع له علم
فشمر إليه ، وبورك له في تـفرده في طريق
طلبه ، فلزمه و استـقام عليه ، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله ،
ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافـقه في سبيله " [134]
فكذلك
البرهان الذي يعطيه المسلم علامة لصدقة .
و
كذلك حقاً تـفـعـل الأشواق حين تصدق . إ
ن
صاحبها حينئذ يأبى إلا الهجرة والانضمام إلى القافـلة .
ويذر
كل رفيق يثبطه ويزين له إيثار السلامة ، إلا داعية يبثه همه ، ويتعاون معه على
السير في طريق الجهاد ، ويعلمه علم البذل و فقه الدعوة والتبشير .
فحيهلا إن كنت ذا همة فـقـد **** حدا بك
حادي الشوق فاطو المراحلا
ولا تـنـتـظر بـالسيـر رفـقـة قاعد **** و دعه فـإن العزم
يـكـفـيك حاملا
فينتـفض
، ويهجر كل قاعد ، ويهاجر مع المهاجرين إلى الله ..... ويخطب به ابن تيمية فيقول ،
ويصف له الطريق و اضحاً : " الحرية حرية القـلب ، والعبودية عبودية الـقـلـب
" [135]
فـيـطرح
أغلال الشهـوات وحب الأموال عن قلبه ويصبح حراً , ويعود يأبى المنخفض الخبت ،
ويرفض أن تواريه الوديان ، ويبتغي المرتـفـع العالي .
ومن
أراد ذلك ارتـقى سلم الارتـفاع والسمو : الجهاد ، و فـقه الدعوة .
قال
تعالى : { يـرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } .
"
وقـد أخبـر سبحانه في كتابه بـرفع الدرجات في أربعة مواضع . أحدها : هذا . والثاني قوله : { إنما
المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تـليت عليهم آياته زادتهم إيماناً
وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنين
حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } . والثالث قوله تعالى : { ومن يأته
مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى } . والرابع قوله تعالى : { وفضل
الله المجاهدين على القاعدين أجـراً عظيماً درجات منه ومغـفرة و رحمة } .
فهذه
أربعة مواضع ، في ثلاثة منها : الرفعة بالدرجات لأهل الايمان الذي هو العلم النافع
و العمل الصالح . و الرابع : الرفعة بالجهاد ، فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم
و الجهاد " [136]
ولا
تصل إلى هذا العلم وهذا الجهاد إلا بهمة ، ومن ثم كانت الهمة باب الدخول ، فمن
امتـلكها لان له كل صعب ، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها
معاني الإيمان .. كما قال إقبال :
همم الأحرار تحيي الرمما **** نفخة
الأبرار تحيي الأمما
و
بالمقابـل جعل رحمه الله : كل داء في سقوط الهمم .
و
كذلك أمر المسلمين حين ضاق اليوم ، لا يفـرجه ويـوسعه إلا أصحاب الهمم العالية
فحسب . ولذلك كان من تعاليم الإمام حسن البنا : " أن تستصحب دائماً نية
الجهاد وحب الشهادة ، وأن تستعد لذلك ما وسعك الاستعداد " , " و أن
تعتبر نفسك دائماً جندياً في الثكنة تـنتظر الأمر " [137]
وإنه
لمعنى يفقهه من ذاق العلو ، محجوب عمن يطلب السلامة .
قلت لـلـصقـر وهـو في الجو عال : **** اهـبط الأرض فـالهـواء
جديـب
قال لي الصقر : في جناحي وعزمي **** وعنان السماء مرعى خصيب [138]
وهذا
المرعى لا شـك يجهـلـه الأرضـيـون .. !
قال
تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انـفروا في سبيل الله
اثـاقـلتـم إلى الأرض } .
"
إنها ثـِقـلة الأرض ، ومطامع الأرض ، و تصورات الأرض . ثـِقـلة الخوف على الحياة
والخوف على المال و الخوف على اللـذائذ والمصالح والمتاع . ثـقـلة الدعة والراحة
والاستـقـرار . ثـقـلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . ثـقـلة اللحم
والدم والتـراب . والتعبير يـلـقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه : اثاقلتم - وهذه
قراءة حفص , وهي أبلغ تصويراً من القراءات التي ورد فيها : تثاقلتم - وهي بجرسها
تمثل الجسم المسترخي الثـقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقـط منهم في ثـقـل ،
ويـلقيها بمعنى ألفاظه { اثاقلتم إلى الأرض } ومالها من جاذبية تـشد إلى أسفل و
تـقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .
أن
النـفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض ، وارتـفاع على ثـقـلة اللحم
والدم ، وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان و تغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على
عنصر القيد والضرورة ، وتطلع إلى الخـلود
الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ؟ فما متاع
الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } , وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله إلا و في
هـذه العقيدة دخـل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول صلى الله عليه
وسلم : ( من مات ولم يغـز ولم يحدث نفسه بغـزو مات على شعبة من شعب النفاق ) .
فالنفاق – وهـو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال – وهـو الذي يقعد بمن يزعم
أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الـفـقـر ، والآجال بيد الله
، والرزق من عند الله ، { وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } .
و
من ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد : { إلا تـنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل
قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، والله على كل شيء قديـر } . والخطاب لقوم معينين
في موقف معين ، ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله . والعذاب الذي يتهددهم
ليس عذاب الآخرة وحده ، فهـو عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن
الجهاد والكفاح ، والغلبة عليهم للأعداء ، والحرمان من الخيرات و استغلالها
للمعادين ، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس و الأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح
و الجهاد ، و يقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تـتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها
الفداء " [139]
لذلك
رأى المودودي ضرورة الصراحة , فحسم أمر الهمة بألفاظ يظن القارئ أنها خشنة فقال :
( من دواعي الأسف أن الذين عندهم نصيب من القوى الفكرية و القلبية من النوع الأعلى
من أفراد أمتـنا هم مولعون بإحراز الترقيات الدنيوية ، جاهدون في سبيلها ليل نهار
، ولا يقبـلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتـفعة , و ما بلغوا من
تعـلقهم بالدعوة إلى الاستعـداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم ، بل ولا بمجرد
إمكانيات منافعهم . فإذا كنتم ترجون ، معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية ،
أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من
الجنيهات كل يوم في سبيل غاياتهم الباطلة ، فما ذلك إلا حماقة ) [140]
وبعد
.. فإنا لا زلنا نعطيك جمهرة من أبلغ القول وأحسن الكلام , وقـد قال الزاهد الثـقة
يحيى بن معاذ رحمه الله أن "الكلام الحسن حسن ، وأحسن من الكلام : معناه
وأحسن من معناه : استعماله" فقم إلى استعماله يرحمك الله :
وخل الهوينا للضعيف ولا تـكن **** نؤوما فإن الحزم ليس بنائم
وهذه
كتيبة الحق قد دنت منك في سيرها بنشيد هادر :
قد نهضنا للمعالي و مضى عنا الجمود
و رسمناها خطى للعز و النصر تـقود
فتـقـدم يا أخا الإسلام قد سار الجنود
و مضوا للمجد إن المجد بالعزم يعود [141]
و
كأنك قد أصغيت ، و استدركت قعودك ، و عـفت مساعيك لاحراز الترقيات الدنيوية جانباً
، وآمنت بأنها آتية إليك دونما جهد وحرص . ثم كأنك أخذت مكانك في الكتيبة السائرة
، و بدأت تـنشدهم مبايعاً :
مهما عتا الأقـزام والأعبد
و لوحوا بالـقـيد أو هددوا
عن نصرة الإسلام هل أقعد
لا ، سوف أبقى دائماً أنشد
بفجره لا بد يأتي الغد [142]
11- الــعـبــد الــحـُــر
إن مسلماً نودي
بالسير مع الهمم العالية ، فانـتـفـض ، و أفـلـت من قـيود الأرض ، وحلق بجناح
العزة : هـو مسلم حري به أن يتم انتـفاضتـه بخطوة تميـز واضحة .
أو
كما قال سيد رحمه الله : إن " أولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج و
يتـفرد ، ولا يتـلـقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم ، كيما يظل
المنهج نظيفاً سليماً ، إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى " [143]
... وهذا يعني قيام مفاصلة شعورية وفكرية في ضمير المسلم ، يـنـفـصل فيها التحديد
الإسلامي الواضح للمعاني الثلاثة المهمة المكونة لكل منهج ، وهي : معنى الوطن ،
ومعنى الحاكم ، ومعنى الدستور ، عن الاطلاقات الجاهلية في تـفسيرها ، وعما بعد
الإطلاق من اختلاف اجتهادات العـقـول . فالأمة الإسلامية قد حدد الله تعالى
مقوماتها ، و جعل : " الجنسية فيها هي العقيدة . والوطن فيها هو دار الإسلام
. والحاكم فيها هـو الله . والدستور فيها هو القـرآن .
هذا
التصور الرفيع للدار و للجنسية و للقرابة هو الذي ينبغي أن يسطر على قلوب أصحاب
الدعوة إلى الله ، و الذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختـلط به أوضار التصورات
الجاهـلية الدخيلة ، ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية . الشرك بالأرض ، والشرك
بالجنس ، والشرك بالقوم ، والشرك بالنسب ، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة "
[144]
وحملة
الإسلام إنما ينطلقون بهذا المفهوم الإسلامي الواضح ، ويعلنوه ، دونما ملاطفة
لأفكار الكـفـر الأرضية ، ولا مهادنة ، ولا محاولة استرضاء . وإنه لأمر جازم من
الله لهم أن : { ادعـوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } .. " ولن
يرضى الكافرون من المؤمنين أن يخلصوا دينهم لله وأن يدعوه وحده دون سواه ، ولا أمل
في أن يرضوا عن هذا مهما لاطفوهم أو هادنوهم أو تـلمسوا رضاهـم بشتى الأساليب .
فليمض المؤمنون في وجهتهم ، يدعون ربهم وحده ويخلصون له عـقـيدتهم ، ويصفون له
قـلوبهم . ولا عليهم رضي الكافـرون أم سخطوا ، وماهـم يوماً براضين " [145]
فما
دامت هذه النتيجة حتمية ، وأن الكافرين لن يرضوا عن المؤمنين ، فليسلك الدعاة إذن
ما يناسبها من مقدمات ترد على تمرد الكفر و رفضه الإيمان .
ولن
يكون هذا الرد غير التميز ، و الانفصال عنه .
طالما
أنه ليس هناك لقاء ، فإن المنطق يقتضي الانفصال إذن , كما فاصَـلَ النبي صلى الله
عليه وسلم كفار قريش في العهد المكي ، و كما فاصل كل القبائـل بعد الهجرة . ولم
تكن تـلك المفاصلة النبوية الكريمة مجرد اضطرار لجأ إليه في حقبة تاريخية تبدو لنا
آخذة دورها في تسلسل تاريخ الدعوة النبوية ، و إنما كانت حقيقة إيمانية و دلالة
نعمة ربانية ، من شأنها أن يلتـفـت لها المؤمنون
. و تـلمس هذا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكرهم بها ، و
يتخذها عاملاً تربوياً للذين معه ، فيقول لما صلى بهم يوماً صلاة العشاء قريباً من
نصف الليل : ( أبشروا أن من نعمة الله عليكم أنه ليس من الناس أحد يصلي هذه الساعة
غيركم ) [146]
, وذلك " قبل أن يـفشو الإسلام في الناس " [147]
كما يقول الراوي .
إنه
جعلها بشرى ونعمة ربانية ، وكذلك تربى نفوس المؤمنين على معاني الاستعلاء ، وتوكيد
إلحاحهم في تحدي الجاهـلية كلها مهما فشت وعمت وانتشرت وكثـر أصحابها , ومهما قـل
عدد المسلمين وانحصروا في دويرة صغيرة ، كما كانوا في دويرة المدينة ومن حولهم هذه
الجزيرة العربية الواسعة الأطراف ، الكثيرة القبائل .
والمس
عظم أثـر هذه التربية ، وتحولها إصرارا وثباتاُ في الدين ، وتجديد عزم على المضي ،
حين يقول من سمع هذه البشرى : " فرجعنا فرحين بما سمعنا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم " ... فتصور هذه الدويرة الإسلامية المتميزة في الجزيرة
الكافرة . كانت هناك طليعة إسلامية " تـزاول نوعاً من العزلة من جانب ،
ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة " [148]
, وهي في الحقيقة استمرار للمفاصلة التي كانت في العهـد المكي ، فظهـرت في المدينة
بصورة كاملة واضحة . و ما كانت نفوس المسلمين لتصبر في المدينة على لوازم هذه
المفاصلة لولم تـكن قد ربيـت قبل الهجرة تربية صلبة عميقة على أولوياتها ومقدماتها
، فيومها : " في مكة ، لم تـكن للإسلام شريعة ولا دولة ولكن الذين كانوا
ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ويمنحون ولاءهم
من فورهم للعصبة المسلمة ، كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها
، وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم
بالشهادتين " [149]
.. كان " الإسلام هو تـلـك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين ، هـو الانخلاع
من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادتـه وسلطانه وشرائعه ، والولاء لقيادة
الدعوة الإسلامية وللعصبية المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع
" [150]
, فلما تجلى هذا التميز بصورة أوضح في المدينة ، صار المجتمع الإسلامي مناراً
واضحاً في تـلـك الصحراء ، يأوي إليه الهائم والمتشكك ، ومـن يحـتـدم في قلبه
الصراع بين الإيمان والكـفـر الموروث .
فلما
اتسع المجتمع الإسلامي ، وانتصر ، ودانت كل الجزيرة بدين الله : استـمرت هـذه
الحاجة إلى مفاصلة بـقـايـا الجاهـلـيـة المـتـمـاثـلـة بـبـقـايـا الـنـفـاق
واتباع الـشـهـوات .
وهي
مفاصلة ثانية ، واجبة أيضاً . فكما أن المفاصلة الأولى أفادت في إيجاد عزة الإيمان
في نـفـوس المفاصلين ، وفي جعل المدينة مناراً يأوي إليه الحائر ، فإن المفاصلة
الثانية كانت ضرورية للحفاظ على نـقـاوة جهاز دولة الإسلام ، المحافظ على سمات
حـكـمـه وفـقهه وتربيته وفتوحة . ومن هنا
دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هذه المفاصلة الثانية بعبارة جامعة رائعة فقال
: (إن لله عباداً يميتون الباطل بهجره ، ويحيون الحق بذكره) [151]
وقـد
استعمل كلمة الهجر للدلالة على المفاصلة التي نعنيها . وهذا يعني أن عنصر النفاق و
ا تباع الشهوات كلما زاد في المجتمع ، زادت هذه الحاجة إلى هذا النوع الثاني من
المفاصلة ، بعملية طردية ، ليبقى الباطل باطلاً مشاراً إليه بأصبع الاتهام ، و
لئلا يحيـله التـقادم إلى حق موهـوم في ذهن الذين لا يعون ، فينطـلي زوره ، و ينسى
الناس اعوجاجه ، و لئلا تستسيغه النفوس من بعد ، حين يطول الأمد .
و
لذلك فإن الدعوة الإسلامية اليوم لا بد لها إزاء زيادة النفاق و الفسق و اتباع
الشهـوات في المجتمع الحاضر من هذه المفاصلة ، و من هذا التميز ، بشكل واضح صريح ،
لتبقى الصورة الإسلامية جلية واضحة بدورها ، يمكن أن ينظر إليها من يبتغي النظر
إليها ، ممن تحفزهم كلمات الدعاة لمحاولة اكتشاف أبعاد هذه الصورة ، و التـفـتـيـش
عنها و تـلمس مثـل تـطـبـيـقـي لها .
و
الحقيقة أنه و إن افـتـقـد الدعاة في هذا القرن صورة حكم إسلامي يصلح مثلاً لتطبيق
الإسلام ، إلا أن هذا المثـل يمكن أن يتجلى في بعض أشخاص من الدعاة ، تتضح فيهم
معاني الإسلام ، ويكتسبون من هيبته ، و يبلغون الذورة في الإيمان والتجرد وتطبيق
السنة النبوية الشريفة . وهذا هو معنى ( القدوة ) في صورتها البسيطة .
إن
وجود ( القدوة الإٍسلامية ) يعني وجود شخص يدرك الناظر إليه أنه مستـقـل في فكرتـه
و عـقـيدته ، و سكناته و حركاتـه ، عما حوله ، منفصل عنهم ، تميزه الأبصار قبل
المعاملة ، بما تعلوا وجهه من معالم السكينة و الهيبة و الحزم التي شاء الله أن
ينفرد بحيازتها المسلم دون غيره ، فيعوض بذلك عن صورة الحكم الإسلامي المفتـقـد ،
ويكون بديلاً لها ، وبرهاناً على أن الإسلام قادر أن ينتج مثل هذه النماذج
الإنسانية الرفيعة ، أو بالأحرى : يكون برهاناً على أن مثـل هذه النماذج لا ينتجها
غير الإسلام .
و
أبو القاسم الجنيد رحمه الله يعبر عن هذا الانفصال للقدوة الإسلامية بعبارة (
الحرية عما سوى الله ) ، أي ليس بينه و بين ما سوى الله رابط أو قيد أو نسب أو ميل
أو رغبة ، بل هي الحرية بمدلولها الذي يفهمه كل حر ، فيقول : " لا يكون العبد
عبداً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً " [152]
ويعبر مرة أخرى عن هذا الانفصال بأنه
"عبودية الأحرار" أو " حرية العبيد" ، فيصوغ سطراً
بليغاً رفيعاً يغني عن عشر مجلدات ، ويـقـول : " إنــك لا تصل إلى صريح
الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بـقـية " .
فلأن
الإسلام كله عبودية لله تعالى ، فإن العبد التام العبودية الذي سماه الجنيد , هـو
وحده الحر في هذا الوجود دون غيره من أسارى الشهوات واجتهادات العـقول القاصرة ,
وهذا التعبير الجميل ورثه الجنيد عن أفضل الزهاد العباد : الفضيل بن عياض رحمه
الله ، إذ أبرز الفضيل بمقابل الحرية مما سوى الله : واجب المسلم في تجريد
الربانية له واطراح كل ربانية لأحد من الخلق يريد أن يفرضها عليه بثمن مادي ، أو
بالـقـسـر و الاكراه ، فيقول الفضيل : " والله ، ما صدق الله في عبوديته من
لأحد من المخلوقين عليه ربانية " [153]
. فالمسلم يفرد الله بالعبادة ، و إفراده بالعبادة يقتضي أن يعلن بصراحة ووضوح
براءته مما يعبد الغير ، ومما يشرعون لأنـفسهم ، و يجهـر بذلك مفاصلاً ، كما فاصل
نبي الله هود عليه السلام قومه بقوله : { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما
تـشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تُـنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما
من دابة إلا هـو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستـقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما
أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ
}
"
إنها انتـفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم – وانتـفاضة الخوف من
البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقاً . وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا
يلتـقيان على وشيجة ، وقد انبتـّت بينهما وشيجة العقيدة . وهو يشهد الله على
براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم ، ويشهدهم هم أنفسهم على هذه
البراءة منهم في وجوهم ، كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نـفوره و خوفه أن يكون منهم
. و ذلك كله مع عزة الإيمان و استعلائه ، و مع ثـقـة الإيمان واطمئنانه ! وإن
الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى ، يبلغ بهم الجهل أن
يعتـقـدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلاً فيهذي ، و يروا في الدعوة إلى الله
الواحد هذياناً من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثـقين بآلهتهم
المفتـراه هذه الثـقة ، فيسفه عقيدتهم و يقرعهم عليها و يؤنبهم ، ثم يهيج صراوتهم
بالتحدي لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم ، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم . إن
الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد ، و لكن الدهشة
تـزول عندما يتدبر العوامل و الأسباب .
إنه
الإيمان ، و الثـقة ، و الاطمئنان . و الإيمان بالله ، و الـثـقـة بوعده ، و
الاطمئنان إلى نصره ، الإيمان الذي يخالط الـقـلب ، فإذا وعد الله بالنصر حقيقة
ملموسة في هذا الـقـلـب لا يشك فيها لحظة ، لأنها ملء يديه ، وملء قلبه الذي بين
جنبيه ، وليست وعداً للمستـقبـل في ضمير الغيب ، إنما هي حاضر تتملاه العين و
الـقـلب " [154]
{
إن ربي على صراط مستـقيم } ..
"
فهي الـقوة والاستـقامة والتصميم . وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك
الاستعلاء وسر ذلك التحدي . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود عليه
السلام في نـفسه من ربه . أنه يجد هذه
الحقيقة واضحة . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر : { ما من دابة إلا هـو آخذ بناصيتها
} ، وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تـلـك الدواب التي يأخذ ربه
بناصيتها و يقهرها بقوتـه قهـراً ، فما خوفه من هذه الدواب و ما احتـفـاله بها ،
وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه ؟ وما بقاؤه فيها وقـد اخـتـلف طريقها
عن طريقه ؟ إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة نـفـسه ، لا تدع في قلبه مجالاً
للشك في عاقبة أمره , ولا مجالاً للتـردد عن المضي في طريقه . إنها حقيقة الألوهية
كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبداً " [155]
.
وقد
فقه الإمام البنا رحمه الله هذه النظرية في المفاصلة ، فنادى بوجوب تربية النشء
وفق معانيها ، وأوضح أن مستـقبل الإسلام إنما يعتمد على " هذا النشء الجديد ،
فأحسنوا دعوته ، وجدوا في تكوينه ، وعلموه استـقلال النفس والقـلـب ، واستـقلال
الفـكـر والعـقـل ، واستـقلال الجهاد و العمل , واملأوا روحه الوثابة بجلال
الإسلام وروعة القرآن ، و جندوه تحت لواء محمد ورايته ، و سترون منه في القريب
الحاكم المسلم الذي يجاهد نفسه و يسعد غيره " [156]
... فهو قد عبر عن المفاصلة بالاستـقلال ، كما عبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه
عنها بالهجر . فاستـقلال النفس والقلب هو المفاصلة الشعورية في الضمير ، و العزة و
الاستعلاء .
و
استغلال الفكر هو عدم خلط الشريعة بالتصورات الأرضية المبتدعة التي أضلت الأحزاب .
و استـقلال العمل هو التميز في الصف ، و تـرك الأحلاف . وكما أنها مهمة هؤلاء
الدعاة في تـربية النشء ، فإنها مهمتهم في وجوب الانتباه لنـفـوسهم ، والثبات على
هذه المفاصلة . أو كما قال الإمام : " لا تصغروا في أنفسكم ، فتـقـيسوا
أنفسكم بغيركم ، أو تـسلكوا في دعوتكم سبيلاً غير سبيل المؤمنين ، أو توازنوا بين
دعوتكم التي تتخذ نورها من نور الله ، و منهاجها من سنة رسوله ، بغيرها من
الدعـوات التي تخلقها الضرورات ، و تذهب بها الحوادث و الأيام " [157]
. ومن مكملات ذلك و ضرورياته حفظ صفاء الابتداء و نقاوته ، و كما يجب على الداعية
أن يحفظ لمن يدعوهم الهمة ، و يسيرهم مع الهمم العالية ، فإن عليه أن يحفظ لهم
صفاء الابتداء ، فإن الأيام الأولى للسير في طريق الدعوة تحسم مدى الصفاء مثلما
تحسم منزلة الهمة .
إن
من يفتح عينه على المفاهيم الإسلامية النقية المستمدة من القرآن و السنة فحسب غير
المشوبة بترهات غير إسلامية فإنه يبدأ وينشأ ويشب و يشيب و يموت على هذه المفاهيم
، و من سقي المخاليط ذات الشوائب صعبت عليه التـنقية بعد .
و
لقد وعى أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصر آباذي المتوفي سنة 367 هـ هذا المعنى
أروع الوعي فقال :
"
ما ضل أحد في هذا الطريق إلا بـفساد الابتداء , فإن فساد الابتداء يؤثر في
الانتهاء " .
فأحسن
البداية و أتـقنها يا داعية الإسلام .
12- قــصـص مـن لـهـو الـدعـاة
ما
كان لأهـل الحركة الإسلامية و من حولهم من ناشئة الابتداء أن يتخـلـفوا عن السير
نحو أفراح الآخرة ، ولايرغبوا بأنفسهم عن حاجات الدعوة ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ
ولا نصب ، ولا غبار في سبيل الله ، ولا يتكلمون كلمة تغيظ الأحزاب الأرضية ولا
ينالون من ملحد نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ؛
ولا ينفقون نـفقة من التعب صغيرة أو من الهول كبيرة ، ولا يجوبون محلة أو مدرسة أو
جامعة أو مصنعاً إلا كتب لهم ، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون .
و
كيف يلتـذ داعية براحة وهـم قد لقنوه من أول يوم أن ينشد :
في ضميري دائماً صوت النبي
**** آمراً : جاهد و كابد و اتعب
صائحاً : غالب و طالب و ادأب **** صارخاً : كن أبداً حراً أبي
و
كيف يميل إلى استرخاء ، و أصحابه يهتـفون :
نَبني ، ولا نتكل **** نفني ، ولا ننخذل
لـنا يـد والـعـمـل **** لـنـا غـد والأمـل
إن
حرية الداعية ، والأمل الذي يستيقنه : يدفعان به دفعاً إلى البذل السخي .
·
عـلـو فـي الـحـيـاة :
حرية
.... و أمل
حرية
تكسر قيود الشهـوات
و
أمل بالأجر ، و ثـقة بالنصر
كلمتان
خفيفتان على اللسان ، ثـقيلتان في ميزان التصارع العقائدي ، كانتا دوماً في تاريخ
التوحيد الطويل ، تأخذان التعب من أجيال الدعاة من النبيين والصديقين والراشدين و
التابعين و من لحقهـم بإحسان على مـر القرون
، فكلهم بالتعب كانوا يفرحون يأبون إلا العلو في الحياة ونحن إن شاء الله
بهم لمقتدون .
كان
تعبهم يـتمثـل أحياناً بحركة يومية دائبة في الإنذار والتبشيـر ، والتجميع
والتبصير ، أو سهـراً على رعاية مصالح المسلمين . و يتمثـل أحياناً في انكباب على
التعلم واجتياز المفاوز لحيازة حديث أو كلمات فقه .
ويتجسد
في أخرى قتالاً ، وتحفيزاً دائماً لجهاد وعـلو موت . وفي أخرى إشغالاً لـلـفـكـر
في التخطيط .
وفي
أخرى إشغالاً للفكر في التخطيط .
فإن
أخذوا راحة ، واستـلـقـوا على ظهورهم : لبث ذهنهم يصطاد الخاطر .
وكل
ذلك حكى التاريخ ، ليتعلم الدعاة اليوم .
·
نـطـق بـالـلـيـل و الـنـهـار :
فأول
من يطالعنا : الأنبياء عليهم السلام . كان لسانهم ناطقاً بالليل و النهار ، و
الإعلان و الإسرار . قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام : { قال رب إني دعوت
قومي ليلاً ونهاراً } , ثم قال : { ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت
لهم إسراراً } .
·
ونـطـق أثـنـاء خـطـوات الـهـجـرة :
"
والواقع أن الداعي إذا كان صادقاً في دعوتـه منشغلاً بها لا يفكـر إلا فيها ولا
يتحرك إلا من أجلها ولا يبخل عليها بشيء من جهده ووقته لم يشغله عنها شاغل أبداً
حتى في أحرج الساعات وأضيق الحالات وأدق الظروف ، وهكذا كان رسولنا محمد صلى الله
عليه وسلم ، فعندما هاجر إلى المدينة و معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقي في
طريقه بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة ، فدعاهم إلى
الإسلام فأسلموا . وهذ يدل أنه عليه الصلاة والسلام لم يغفل عن الدعوة إلى الله
حتى وهـو في طريقه مهاجراً إلى المدينة و
القوم يطلبونه " [158]
·
و نـطـق فـي الـسـجـن :
"
ويـوسف عليه السلام عندما دخل السجن مظلوماً لم يشغله السجن و ضيقه عن واجب الدعوة
إلى الله ولهذا فقد اغتـنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها , فقال لهما قبل أن
يجيبهما ما أخبرنا الله به : { يا صاحبي السجن أأرباب متـفرقون خيـر أم الله
الواحد القهار } " [159]
·
الـراشـد يـمـنـع الـنـوم :
و
قاربهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه حتى قال عند وفاته : " والله ما نمت
فحلمت ، ولا توهـمت فسهـوت ، و إني لعـلى السبيـل ما زغت " [160]
. يعني أنه قد شغلته حروب الردة و الفتوح وأرهـقه إرساء جهاز الدولة ، حتى أنه ما
كان ليستغرق في نومه ليتاح له أن يحلم ، و ظل يزاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم
في الصديقية ليهبه الله تعالى يـقـظة أثـناء هذا التعب تبعد عنه الوهـم والسهـو .
·
الترابي ...... !
ويترجم
عبدالله بن عباس رضي الله عنه انغماسه في صورة جمع بين التواضع والصبر على مشقة
التعلم وجمع الحديث ، حتى أن الريح لتسفي عليه التراب ، يرجو بذلك أن يستـنشق
نسمات الجنة ، ويجتاز الصراط بلا حساب .
واسمعه
يروي ما كان منه ويـقول : ( أقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الحديث , فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهـو قائـل ، فأتوسد ردائي
على بابه ، تـسفي الريح علي التراب ، فيخرج فيقول لي : يابن عم رسول الله ما جاء
بك ؟ ألا أرسلـت إلي فآتيك ؟ فأقول : لا ، أنا أحق أن آتيك ، فأسأله عن الحديث ) [161]
. ولو شاء أن يوقظوه لأيقظوه لـه مع الفرح ، ولكن الهمم العالية تطرب لصفير الرياح
ولـفحات التراب .
·
هــوايــة رفـع الأثــقــال
والداعية
الـلـبيب يسابق أصحابه لحمل كل ثـقـيـل من الأمور ، فيكون يوم الجمع صاحب الميزان
الثـقـيـل ، كما تسابق النخعيون يوم مـعـركة الـقـادسـيـة . قال أحد الصحابة منهم
: " أتينا القادسية ، فـقـتـل منا كثير ، و من سائر الناس قـليل ، فسئل عمر
عن ذلك فقال : أن النخَع ولوا عِظَم الأمر و حدهم " [162]
وما
كان أحد ممن حضر القادسية إلا و أبلى ، و لكن الدعاة إلى الله لهـم هواية التسابق
في رفع الأثـقـال .
·
حـصـن الـتـربـيـة الأسـديـة
والذروة يعلوها التابعي العابد الفقيه
المحدث الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي ، نتاج تربية الأربعة الراشدين و ابن
مسعود و سعد بن أبي وقاص و غيرهم ، فإنه عاف التجارات و البيوت و بنى له في الكوفة
حصناً صغيراً يسعه هـو و فـرسه و سلاحه فقط ، و بقي طول عمره متـحـفـزاً لـلجهاد ،
حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس [163]
. تجرد حق التجرد ، فأنتج حق الانتاج ذرية تجرد تتبعه ، يعلم الدعاة بذلك طريق
إنتاج الرجال باستخدام وسائل الايضاح البصرية المجسدة .
أنتج أبو وائل أمثال : سليمان الأعمش ،
و منصور بن المعتمر ، و حصين بن عبد الرحمن ، وعمرو بن مرة ، و غيرهم من فحول
المحدثين .
إن من لا يفهم التربـيـة يظن أن بناء
هذا الحصن من التـكلف و الرياء ، وما هـو كذلك .
·
ذهــب الـفـراغ ....!
و
يموت شقيق الأسدي مع نهاية قرن الخيـر الأول ، فيبادر الراشد الخامس عمر بن
عبدالعزيز إلى ضرب الأمثال . تصفـه زوجه فاطمة بنت عبد الملك فتـقول : " كان
قد فـرّغ للمسلمين نفسَـه ، ولأمورهم ذهنه ، فكان إذا أمسى مساءً لم يـفـرغ فيه من
حوائج يومه : وصل يومه بليلتـه " [164]
. يضرب المثـل بذلك لداعية الإسلام إن أراد أن يصدق دعوتـه و يؤدي الأمانة .
صدق
الداعية : أن يجدد أطوار عمر فيفرغ نـفسه للمسلمين ، فلا تجـد له حركة دنيوية إلا
بمقـدار ما توجبه ضروريات إطعام عياله . و يـفـرغ ذهنه ، فليس فيه إلا تـفكر
بمصالح الدعـوة .
ويتعرض
أصدقاءٌ قدماء لعمر ، من أصدقائه قبل الخلافة يوم كان فارغاً ، يودون أن تكون لهم
معه جلسة يعيدون فيها الذكريات ، فيقولون : " لو تـفرغت لنا " , فيقول :
" وأين الفراغ ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله " [165]
..
يـلـقـنها
لمن يدخل الدعوة بعده إذا دعاهم رفاق الأمس إلى قـتـل الأوقات .
·
مـوفـق يـجــوب بـحـقـيـبـة الـعـلـم
راجـلاً
ويستـمر
تلامذة أحمد بن حنبل ، وأتباع مذهبه من بعده ، يضعون وسائــل الإيضاح البصرية في
الاستخدام التربوي ، فإنهم كما وصفهم الفقيه النحوي ابن عقيل : " غلب عليهم
الجد ، وقـل عندهم الهزل " [166]
.
فمن
تلامذتـه : الحافظ الإمام الفقيه الزاهد المحدث : إسحق بن منصور المعـروف بالكوسج
، شيخ البخاري ومسلم وغيرهما . كان يسكـن نيسابور بخرسان ، فرحل إلى بغداد ودوّن
عن أحمد بن حنبل مسائـل في الفقه كثيرة ، و رجع إلى نيسابور ، ثم إنه : ( بلغه أن
أحمد بن حنبل رجع عن بعض تـلـك المسائـل ، فحملها في جراب على كتـفـه ، وسـافـر
راجلاً إلى أحمد ، ثم عرض خطوط أحمد على كل مسألة استـفـتـاه عنها فـأقـرّ لـه بها
وأعجب به ) [167]
... وأحدنا الآن يجلس على أريكته و بجنبه مسند أحمد مطبوعاً محققاً مجلداً مذهباً
يـتـكاسل أن ينظر فيه .
·
الـحـنـابـلـة يـحـفـظـون الـسـمـت
ويـرسم
ابن عقـيـل ، النحوي الفقيه الحنبلي ، صورة الداعية الذي لا تـكون خطراته وسبحات
فكره - بل أحلامه إذ ينام - إلا فـي الدعـوة ، ويجلي ذلك بقوله : " إني لا
يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تـعـطـل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن
مطالعة : أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح " [168]
... فانظر ، كم ساعة من نهارك و لـيلـك تضيع سدى ؟
وخلفه
الشيخ الزاهد الفقيه محمد بن أحمد الدباهي . قالوا : ( لازم العبادة ، والعمل
الدائم والجد ، واستغرق أوقاته في الخير .. صَلْبٌ في الدين ، وينصح الإخوان ، و
إذا رآه إنسان : عرف الجد في وجهه ) [169]
.
وهكذا
يجب أن تكون دائماً علامة الدعاة سيماهم في الجد ظاهـرة في وجوههـم ، لا يخطؤها
النظر .
ليس
لهم نصيب من الهزل و الضحك و البطالة .
·
أصحاب الإمام البنا يجددون
وجدد
جيل هذا الـقـرن من الدعاة في مصر تـلـك الصور الرائعة القديمة ، ليبرهنوا أن
الإسلام الذي أنتج أولئك لا يزال حياً . يصف الإمام حسن البنا أصحابه فـيـقـول : (
قـد سهـرت عيونهم والناس نيام ، وشغـلت نـفـوسهم و الخليون هجع ، وأكبّ أحدهم على
مكتبه من العصر إلى منتصف الليل ، عاملاً مجتهداً ، و مفكراً مجداً ، ولا يزال
كذلك طول شهره ، حتى إذا ما انتهى الشهـر جعل مورده مورداً لجماعته ، ونفـقـتــه :
نـفـقـة لدعوتـه ، و ماله : خادماً لغايته ، ولسان حاله يقول لبني قومه الغافلين
عن تضحيته : { لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله } ) [170]
* و عــلــو فــي الـمـمـات .. !
وكما
في مصر ، كان من رعيل العراق الأول : أبو صفوان الدباغ صاحب رسالة ( مع الناشئة )
، الرسالة الصغيرة البسيطة جداً ، الطريفة جداً .
حدثـني
الثـقة من أقـرانه ، قال : ( كان مريضاً بالسرطان ، و اشتـد مرضه سنة اثـنتين و
خمسين و تسعمائة و ألف ، فـرقـد في المستـشفى أياماً ، و كأنه أحسّ بلحظات حياتـه
الأخيرة ، فطـلـب مواجهة قائد الدعوة آنذاك ، فجاءه و معه بعض الدعاة - فِيهِم
راوي القصة - فأعلمهم بـقـرب مـوتـه ، وشهد أن لا إله إلا الله ، و قرأ شيئاً من
القرآن ، و صافح يد القائد ، و أعلن تجديد بيعته و ثباته على هذه الدعوة و حمّلهم
السلام إلى من كان من الدعاة آنذاك و إلى من سيـلـتحق بعد ، ثـم أعـاد الـشهـادة و
مـات مـن فـوره ، بـعـد تـجديـد بـيـعـتـه بـقـلـيـل ) .. رحمه الله ... فتأمل هذه
منـقبـة لا يرزقها إلا من كان توجهه صادقاً في حياتـه .
وتأمل
علو همته . كأنه في قاعة مطار يودع أو على رصيف محطة قطار .
أخ
لك سابق غادر الحياة ولـعـلـك لم تولد بعد يحييك ويـبـلغـك السلام ، و يطلب منك
الثبات على هـذه الدعوة التي جربها في آخـر لحظات حياته فـوجد لـذة السيـر إلى مـن
أنـعـم بـهـا عـلى عباده .
إن
في ذلـك لعبرة تـغـنـي الـلـبـيـب عن كثير من الكلام المنمق والبلاغة المتـكـلـفـة
.
حقـاً إن الهمم مراتـب ، ولا تـعـلـو
هـمة في نهايتها وعند موتها إلا إذا علت في بدايتها .
وقائع وقـصص يمرُّ بها الداعية يأخذ
منها الدروس والعبر ، والهُمام من يـقـول : اللهم اجمعنا وإياهم في دار كرامتـك .
وكـذلـك نـقـصص الـقـصـص لـدعـاة
الإسـلام لـعـلـهـم يـقـتـدون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق