الثلاثاء، 6 يوليو 2010

هذا ماعشته بين الإخوان

هذا ماعشته بين الإخوان
بقلم الأستاذ صالح العشماوي

كتب الأستاذ صالح عشماوي في مجلة النذير الأسبوعية عن زيارته لمعسكر حلوان قائلاً:أعود بذاكرتي إلي الليلة الأولي التي وصلت فيها المعسكر ، وكان الوقت ليلا ، وكيف قدم إلي طعام العشاء ، فنظرت إليه فإذا هو عدس ، هممت بالاحتجاج ، لأن الطبيب يحتم علي ألا آكل إلا خضارا مسلوقا ، ولكني أطبقت شفتي لأني في معسكر أخضع لنظامه لا لأمر الطبيب ، أكلت وحمدت الله ، ثم نهضت إلي مكان النوم ‘ فإذا به خيمة وفراشي فيها الغبراء –وفي الأرض صلابة وخشونة – وأنا رجل مريض ، تعودت اللين من الفراش ، ولكن عبثا حاولت التكلم ، فليس من هذه الضجعة مفر ! فنمت كما أكلت بعد أن دعوت الله ، ولكن لم يطل نومي ، فقد أيقظني أخ كريم ، فنهضت أستفسره الأمر ، فأخبرني أن علي الليلة حراسة ، نعم علي أن أهجر هذا الفراش علي مافيه من تقشف لأقف وسط المعسكر تظلني السماء ، وبيدي عصا لأقوم علي حراسة زملائي وإخواني في الله ، ولــم يـكــن أمـامــي ســــــوي الـطــاعـــــة .

اتخذت مكاني في وسط المعسكر ، والهواء يعصف بي من كل جانب ، والريح يأتيني من كل مكان ، فيهتز له جسدي النحيل ، ثم أخذت أغدو وأروح ، وأسرح نظري في السماء تارة فإذا بها مرفوعة بغير عماد مزينة بالنجوم ، وفي الأرض تارة أخري فإذا بها ممدودة حينا عالية شامخة بالتلال حينا آخر ،........... أخذت أتأمل وأفكر فيطول بي التفكير ، وأبحث وأقدر ، فيستوي أمامي التقدير !! أجل هنا أحسست بعظمة الله وقدرته ، فجري علي لساني قول الحق تبارك وتعالي { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ/ آل عمران: 190}

ثم تقت إلي الراحة فوجد ت منضدة يعلوها مصباح من ورائها مقعد وعليها كتاب فتحته فإذا به دستور السماء ، جلست أقطع الوقت بتلاوة القرآن أرتله ترتيلا ، ولقد قرأت القرآن قبل ذلك كثيرا وقليلا ، ولكن ما أحسست بروعة الآيات وعذوبة التلاوة ، وما سمعت بصوتي رنينا كله جلال ووقار كما أحسست في هذه الليلة ، حتي أذن الفجر بالانبثاق ، فأسرعت أوقظ الإخوان فاستعد الكل ، واستوت الصفوف ، وتقدم الإمام ، فأقيمت الصلاة ، وركعنا ،وسجدنا ،ثم سبحنا بحمده ، واستغفرناه .

مرت فترة قصيرة دوت بعدها صفارة الزعيم ، فهب القوم ، وتنادو مصبحين ، وانتظموا صفوفا كالبنيان المرصوص ، وبدأت الرياضة البدنية فسايرتهم فيها بقدر ماسمحت لي عضلاتي التي ألانتها الراحة والسكون ، ثم صدر الأمر أن نسير .........إلي أين ؟ إلي العين الجديد ة ..
بدأنا السير في اعتدال ، ثم أسرعنا الخطي في اتزان ، ثم انقلب السير عدوا ً وركضاً و"الزعيم" يتقدمنا ينفخ في صفارته كأنه ينفخ فينا من حماسته ؛ حتي إذا بلغنا تلاً مرتفعاً لبس له منفد ،فكدت أصيح بهم : إننا ضللنا الطريق ، لولا أني رأيت "الزعيم" ومن ورائه الإخوان يتخذون سبيلهم في التل عجبا ، ولم يطل ترددي ؛ فقد عز علي أن أقعد مع الخوالف ، فتبعتهم بعون من الله ؛ حتي إذا بلغت نهاية التل إذا بي أري الجمع ينحدر كالسيل إلي بطن الوادي ، ففوضت أمري إلي الله ، وهبطت معهم ، أو علي الأصح من ورائهم ، حتي إذا بلغنا أسفل الوادي وجدنا قناة ، فعبرناها ، ثم تلاً تسلقناه ،وآخر هبطناه ،حتي بلغنا منبع الماء ،وقد لقينا من رحلتنا هذه نصبا .

عدنا إلي المعسكر من نفس الطريق ، وقد علمني هذا "الطابور " كما يقولون أن أمام الإخوان عقبات لابد أن يجتازوها ، وحواجز لابد أن يتخطوها في عزيمة وإرادة ، وفي قوة وشجاعة ، وقد سألت عند عودتي : هل يذهب الناس إلي العين بهذه المشقة ؟ فأ ُعلمت أن للعين سبيلا ممهداً وطريقا محدوداً ، أيقنت عندئذ أن للإخوان طريقاً غير طريق الناس ، يسرعون عندما يبطئون ، ويصعدون الهضاب والمرتفعات بينما يتلمس الناس السهول والوديان ، أو يعبرون الترع والقنوات في الوقت الذي يخشي الناس فيه البلل والرذاذ من الماء ! .

حان وقت الإفطار ، فكان الملح والخبز ، غذاءاً ، ثم وقف الزعيم يرفع العلم ، ووقفنا صفوفا نحييه سلاما ً وهتافاً يملأ الفضاء ، ويبلغ عنان السماء ، ولم يكن هتافاً إلا حمداً وتكبيراً : الله أكبر ولله الحمد ، الله غايتنا والرسول زعيمنا ، والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أسمي أمانينا .

ثم أخذنا نتعلم نشيد الكتائب ، وأشهد أني قرأت هذا النشيد أكثر من مرة وأنا جالس في مكتبي ، فما أثار في نفسي إحساسا ، ولكن في هذه المرة تفتحت أمامي معان لم أكن أدركها ، وشعرت بحقائق لم أكن ألمسها ، فلا عجب إذا أنشدنا في قوة ، لأننا نقول مانفعل ، ونحس بما نقول ، وما أروع ماننشد :
نبي الهدي قد جفونا الكري وعفنا الشهي من المطعم
نهضنا إلي الله نجلو السري بروعـــة قرآنــــه المحكـــم

مضت أيام، ثم جائني من تربطني به صلة القرابة في زيارة ، فعلم كيف آكل ، وكيف أنام ...فهاله الأمر ، وقد قال لنفسه : مال لهذا المطرف المريض ينام نوم الأصحاء ، ويأكل أكل الفقراء ؟! فلما اختلي بي مكانا قصيا بادرني بقوله : هل أنت مجنون ؟ قلت: هذا أحد الفرضين ، قال :وهل هناك فرض آخر ؟ فقلت : نعم ، وهو أني "محب "، فابتسم بخبث ، ولعله قد عجب كيف يُحب الإخوان المسلمون ! فقلت : هون عليك ؛ فقد أحببنا الله ورسوله حبا ملك علينا نفوسنا ، فجفونا الكري ، وعفنا الشهي من المطعم ، وأولي بمن أحبو الله ورسوله أن تتجافي جنوبهم عن المضاجع خوفا وطمعا ، يستغفرون ربهم عشية وأسحارا ، ويناجون مولاهم بقرآن كريم يرتلونه ترتيلا ، ويقضون أيامهم في تحقيق قوله تعالي {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ/الأنفال :60} حتي يعود للإسلام مجده ،وحتي يفرضوا علي الناس حده ،وحتي لاتكون فتنة ،ويكون الدين كله لله .

لقد كان معسكرا ً رائعا ً جليلاً، عظيماً جميلاً ، ما أظن أني أستطيع أن أحيط بكل ناحية من نواحي عظمته ، لم يكن لهوا كما قدرت ، ولعبا كما ظننت ، ولكنه كان عملا وإعدادا ، وتدريبا وجهادا ، وإني لأتخيل الواحد منا وقد أهاجته الذكري ، فذكر أيام المعسكر وإخوان المعسكر ، ففاضت عيناه ، ثم أخذته النشوة ،فأنشد من أعماق قلبه وكأنه فيهم وكأنهم معه :
تآخـــــت علـــــي اللـــــه أرواحنـــــا إخــــاءاً يــــــروع بنــــاء الـــــزمن

مجلة النذير الأسبوعية – السنة الثانية- العدد 23 – ص8 : 10 –جمادي الآخرة 1358هـ/ 25يوليو1939م . –بتصرف - .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق